إعلان الدولة والقفز على الوصاية العربية

إعلان الدولة والقفز على الوصاية العربية

24 نوفمبر 2018
تخوف الفلسطينيون من تسوية على حساب منظمة التحرير(فرانس برس)
+ الخط -
لا يمكن عزل أي تطور أو تحول في القضية الفلسطينية ومساراتها عن البيئة العربية، وإن حدوث أي متغيرات في هذه البيئة ينعكس مباشرة على القضية الفلسطينية، فعندما تنهض الحالة العربية تنهض معها القضية وإذا تردت انتكست معها القضية الفلسطينية، وإن دلائل ذلك كثيرة تفوق الاستدعاء منذ النكبة عام 48 مرورا بالنكسة عام 67 ووصولا للواقع العربي الحالي.
حاولت الحركة الوطنية الفلسطينية مراراً وتكراراً تلافي هذا التأثير ولكنها كانت تغرق أكثر في الوصاية العربية التي تجلت منذ بلورة أول هيكل فلسطيني مستقل اجتهد في التعبير عن الهوية الفلسطينية منذ حكومة عموم فلسطين وأحمد الشقيري، ثم تجلت محاولات الانفكاك في إبدال الميثاق القومي إلى الميثاق الوطني الفلسطيني، واستتبع الأمر من الفكر إلى الممارسة فأنشئت منظمة التحرير والتي حرصت على شعار الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في منتصف ستينيات القرن الماضي، واستكمل الأمر بذهاب المنظمة بعيدا عندما أعلنت استقلال دولة فلسطين في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1988 في الجزائر.
لم يكن إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر منفصلا عن البيئة العربية التي بدأت مواقفها في التغير بعد حرب العام 67، فلم تعد فلسطين قضية العرب الأولى وقد أصبح تحرير الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل الأهم والأولوية بالنسبة للعرب، عندها تراجع الرهان الفلسطيني على الأنظمة العربية وجيوشها لتحرير فلسطين، واقتصر التعاطي العربي مع فلسطين على الدعم المادي والمعنوي في المحافل الدولية. ثم تطور الأمر إلى حالة اشتباك ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية كما حدث في الأردن عام 1970 والحرب الأهلية في لبنان عام 1975 والتي انتهت بغزو إسرائيل للبنان عام 1982 وإخراج قوات منظمة التحرير من بيروت وتشتتها في العواصم العربية وانتقال قيادتها إلى تونس.
أدى خروج المنظمة من بيروت لعملية إنهاك عسكري أفضت لاستضعاف سياسي، دفع بتيار التسوية للتقدم صوب تبني الحلول السلمية، وبعد أن كان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد للتحرير، بدأ استدعاء العمل السياسي كأحد وسائل تحرير فلسطين وأُفسح المجال للحلول المرحلية لإقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء من فلسطين، وكانت موافقة منظمة التحرير على مشروع التسوية العربي (مشروع قمة فاس) سنة 1982 تحولا كبيرا، إذ تضمن اعترافاً ضمنيا بإسرائيل وما احتلته من أراض فلسطينية عام 1948، عندما وافقت على حق جميع دول المنطقة في العيش بسلام بما في ذلك إسرائيل ووافقت على الدخول في مفاوضات التسوية، الأمر الذي واجهت فيه المنظمة سنوات عجاف خلال فترة 1983 - 1987، انعكست على شكل تراجع في الأداء النضالي المسلح، وفي التأثير والفاعلية السياسية وتبلورت مفاعيله في البيئة العربية بشكل ملحوظ.
لم يكن خيار ذهاب المنظمة عقب خروجها من بيروت إلى تونس خيارا أكثر منه ممرا إجباريا لم تجد المنظمة بداً منه. ذلك أن أول خيوط التقاء الوصاية العربية بدأت من تونس، وذلك أن أول من قدم مبادرة ستفضي لاحقا بالمنظمة لاجتراح إعلان الاستقلال والذي ظاهره قيام دولة فلسطينية لكن المسكوت عنه أنه إعلان يقبل بوجود إسرائيل ويكتفي بدولة فلسطينية على حدود العام 67، وهو ما كان ولا يزال يتقاطع مع الموقف العربي الرسمي الذي قبل هو الآخر وأقر بأن الحل في أن تقبل منظمة التحرير بهذا الأمر - الإقرار بإسرائيل -، وقد كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قد طرح مبادرة لتسوية الصراع في 21 إبريل/ نيسان 1965 على أساس تقسيم فلسطين، ولم تكن مبادرة بورقيبة مستقلة أو منعزلة عن المواقف العربية، وقد جاء إعلانها في سياق جولة عربية كان الرجل يقوم بها.
ثم جاء توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد عام 1978، تبعتها بعد ثلاث سنوات مبادرة الأمير فهد، ولي العهد السعودي آنذاك، ونصت مبادرته في العام 1981على إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس. وبين مبادرة بورقيبة ومبادرة فهد جرت في أروقة منظمة التحرير الفلسطينية مياه كثيرة كلها ذهبت إلى تقاطع المنظمة مع الرؤية العربية التي بدأت تتشكل، لكن اندلاع انتفاضة العام 1987 في الأراضي الفلسطينية سيوظف على عجالة وستلتقط منظمة التحرير الفلسطينية أول خيط يعيد القضية لقلب الحدث لتذهب قبل مرور عام على اندلاع الانتفاضة إلى إعلان استقلال فلسطين في محاولة منها لقطع الطريق على التدحرج العربي الذي بدأ في التشكل صوب التسوية والقبول بإسرائيل بل وتوقيع اتفاقيات سلام معها.
جاء إعلان استقلال فلسطين في الجزائر في بيئة عربية قابلة وموافقة على دولة فلسطينية على 23% من أرض فلسطين، وهو ما يعني التنازل عن الأراضي التي احتلت عام 1948 والتي قامت كل الحروب العربية من أجل تحريرها واستردادها. ولمنع هذا الانزلاق أو التردي العربي، وقف الرئيس الراحل ياسر عرفات على منبر قاعة قصر الصنوبر في قلب العاصمة الجزائرية، صادحًا بمقولته الشهيرة: "إن المجلس الوطني الفلسطيني يعلن باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين، على جميع الأراضي الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف"، ودلالة نص "على جميع الأراضي الفلسطينية" تعني اعتراضا فلسطينيا ضمنيا على ما ذهبت إليه المواقف العربية الرسمية من ذهابها صوب التسوية على حساب الحقوق الفلسطينية، وقد بدأت الخطابات الرسمية تتحدث عن الاعتراف بواقع وجود إسرائيل.
كان تخوف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من تبني الأنظمة العربية لخيار التسوية السلمية في محله بعدما بدأ خطاب هذه الأنظمة يقر بوجود إسرائيل. ففي خضم النقاش حول المؤتمر الدولي للسلام عام 1987، قال أبو إياد، صلاح خلف: "ليست هناك تسوية سياسية في المنطقة إلا على حسابنا كمنظمة وعلى حساب حقوقنا كشعب فلسطيني... وإن ما يعد له هو مؤتمر لتصفية القضية الفلسطينية، لإقرار تسوية لن تكون عادلة ولا شاملة".
كان إعلان الرئيس الراحل عرفات استقلال دولة فلسطين رسالة منه بأن القرار الفلسطيني مستقل، وكان محاولة لاستدراك التغيرات التي بدأت تتشكل في موازين القوى العالمية، وفي تعاطي الدول العربية مع القضية الفلسطينية، واستدراك للاستفادة من التغيرات التي حدثت في التحالفات والعلاقات العربية - العربية واستدارتها نحو القطب الأميركي الأوحد، والذي كان ولا زال يتبنى وينحاز لوجهة النظر الإسرائيلية.
إن إعلان وثيقة الاستقلال يجب وضعه في سياقه التاريخي ولحظته الوطنية والعربية، حيث تداخلت فيها الانتفاضة الأولى وما ولدته من استنهاض للشعور الوطني مع نشاط سياسي ملحوظ لمنظمة التحرير بعد سنوات من الخمول ومن مراهنات البعض على إمكانية شطب القضية الوطنية والالتفاف على منظمة التحرير وخصوصا بعد مؤتمر القمة العربية في عمان، فكانت الحاجة لاقتناص اللحظة التاريخية وتثبيت حالة كيانية فلسطينية ولو نظريا، ومنح الفلسطينيين الأمل بالمستقبل وبإمكانية تثمير الانتفاضة بإنجاز سياسي ملموس.
لقد كانت خطوة عرفات بمثابة قراءة للواقع العربي والدولي وكانت كخطوة استباقية وضع بموجبها حجر الأساس للدولة الفلسطينية وعليه سيكون الذهاب صوب مشاريع التسوية السلمية مُقِراً قبل أي شيء بوجود دولة فلسطينية مستقلة.
إن إعلان وثيقة استقلال فلسطين عام 1988 لم يكن قرارا منعزلا عن البيئة العربية الرسمية. وهي البيئة ذاتها التي ستجهض تبعات وإنجازات إعلان الاستقلال. لقد كان إعلان وثيقة الاستقلال محاولة فلسطينية للانفكاك من الوصاية العربية. ربما أفلحت المنظمة، لكن النتيجة أن منظمة التحرير الفلسطينية تقاطعت بعد ذلك مع ما تريده الأنظمة العربية والتي تحولت تطلعاتها وممارساتها من الوصاية على القضية الفلسطينية إلى ترويض المنظمة. لينتهي الأمر بإجهاض كل الأحلام الفلسطينية.

المساهمون