الشتات والانقسام الفلسطيني

الشتات والانقسام الفلسطيني

28 أكتوبر 2018
الانقسام أثر سلباً على حضور القضية الفلسطينية بالخارج(أنتوني جونز/Getty)
+ الخط -
في حزيران/ يونيو 2007، تأزم الوضع الداخلي الفلسطيني على مختلف الأصعدة السياسية والأمنية والاجتماعية، وانفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتعددت مصادر القرار، ودخل الوضع السياسي في نفق مُظلم طويل، عنوانه الرئيس صراع حول السلطة بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ورفض حركة فتح التنازل عن السلطة. وتعمقت أزمة الانقسام بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2007. غير أن تداعيات هذا الانقسام لم تتوقف خلف حدود الداخل الفلسطيني (غزة والضفة) بل امتدت إلى الشتات الفلسطيني، الذي لطالما كان صورة مرآة للواقع الفلسطيني الداخلي، بكل تجلياته وتشوهاته.

إحباط جماعي مُكثف
شكلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 - 1993)، علامة بارزة في نشاط الجاليات الفلسطينية في الغرب، إذ شهد النشاط الفلسطيني موجات عالية من حملات التوعية بالحقوق الفلسطينية وهمجية الاحتلال الإسرائيلي. وقد أحدث حراك الجاليات الفلسطينية في الشتات اختراقات هامة في جدار الرأي العام الخارجي، الذي لطالما مال إلى الراوية الإسرائيلية، من دون الاكتراث بالرواية الفلسطينية المقابلة. وتجلت نشاطات الجاليات الفلسطينية بالخطاب الوحدوي المُعبر عن الضمير الفلسطيني الجمعي، والهوية الفلسطينية الواحدة. غير أن هذا الحال لم يدم طويلاً، إذ ظهر انقسام بَيِّن في الطيف الفلسطيني مع انطلاق عملية السلام في مدريد (1991)، وما تبعها من مفاوضات علنية وسرية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، انتهت إلى توقيع اتفاق أوسلو (1993)، واعتراف المنظمة بإسرائيل. وقد أصابت التطورات السياسية التي شهدتها تلك الفترة الجاليات الفلسطينية بإحباط، تُرجم في الواقع بانقسام على مستوى الجاليات، إذ برزت تجمعات تؤيد توجهات قيادة منظمة التحرير، تقابلها تجمعات تعارض الاعتراف بإسرائيل، وترى في أوسلو قفزاً على الحقوق الفلسطينية الثابتة، وتصفية للقضية الفلسطينية، لا سيما حق العودة، الذي يخص السواد الأعظم من أبناء الجاليات الفلسطينية في أوروبا.
ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، حاولت المنافي الفلسطينية تجميع شتاتها، واستجماع قواها من جديد، إلا أن اغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في العام 2004، وتراجع زخم الانتفاضة، وما تلاه من تغييرات في النهج السياسي الفلسطيني، أعاد أبناء الجاليات الفلسطينية إلى المربع الأول من الإحباط. وتعمقت هذه الحالة، مع اكتمال فصول الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس في العام 2007.
وكما أدى الانقسام في الساحة الفلسطينية إلى تمزيق الكيانية الفلسطينية، أدى كذلك إلى تمزيق الجاليات الفلسطينية التي أخذت بالتشكل في كيانات، برزت فيها ثلاثة تيارات رئيسية، التيار المؤيد لحركة حماس، وما تمثله من "مقاومة"، ورفض للتسوية السياسية. وتيار حركة فتح، المؤيد لكل الحراك السياسي الذي يقوده الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وتيار مستقل أو محبط فضل النأي بالنفس بعيداً عن التجاذبات السياسية التي تعصف بالساحة الفلسطينية. ومما زاد الطين بلة، انقسام حركة فتح ما بين تيار يؤيد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتيار يؤيد خصمه محمد دحلان، وقد حرص الأخير على تعزيز وجوده بين أبناء الجاليات الفلسطينية في أوروبا.
كما عانى جسد الجاليات الفلسطينية من علة الانقسام الفلسطيني، بشكل مادي ظاهر، إذ نقلت الفصائل الفلسطينية (فتح وحماس) خلافاتها إلى الساحات الخارجية، حيث حاولت فتح السيطرة على السفارات، والهيمنة على الجاليات، عبر تشكيلات تزعم تمثيل "الشرعية"، في حين انصرفت حماس إلى تأسيس كيانات داخل الجاليات، في محاولة للتخلص من هيمنة فتح. وفي ما جرى في بريطانيا ودول أميركا اللاتينية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، مثال حي على حالة التجاذب والتنازع التي عمقت الخلافات والانقسامات داخل أبناء الجاليات الفلسطينية، حتى صارت هذه الجاليات ترجمة حرفية لحال الانقسام الحاصل في الوطن.
وأثرت خلافات كبار السن، الذين نقلوا تشوهات الوطن إلى المنافي، على تفاعل الجيل الشاب من الفلسطينيين مع قضية وطن أجدادهم، وقضية آباءهم، ودفعت الكثيرين منهم إما للابتعاد إحباطاً وقرفاً، أو الاكتفاء بمناصرة القضية الفلسطينية من خلال منظمات غير فلسطينية تنشط في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية وتناهض الاحتلال الإسرائيلي، بأجندات سياسية بعيدة عن الخلافات الفلسطينية المعقدة. وفي أحسن الأحوال، ذهب بعض الناشطين من الشباب الفلسطيني المولود في المهاجر إلى تكوين مجموعات، في المجال الإلكتروني، لدعم الشعب الفلسطيني في مواجهاته مع الاحتلال، مع الـتأكيد على استقلالية هذه المجموعات عن أي من الفصائل الفلسطينية.

انقسام في الخطاب
انعكس الانقسام الواقع في صفوف الجاليات الفلسطينية، انقساما في الخطاب السياسي الموجه للرأي العام الأجنبي، حيث توجد هذه الجاليات. وقد ظهرت ثلاثة خطابات أساسية. الخطاب الأول، تمثله السفارات، ومكاتب منظمة التحرير، وأقاليم حركة فتح. وركز هذا الخطاب على تكرار كل ما يقوله الرئيس الفلسطيني بخصوص عملية السلام والعلاقة مع إسرائيل. أما الخطاب الثاني، خطاب حركة حماس والمنظمات الأهلية الممولة منها، فقد ركز على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، وحق العودة، ورفض التسويات غير العادلة. وما بين الخطابين، ظهرت حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، كتيار ثالث يخاطب الرأي العام الغربي بلغة أكثر براغماتية، يركز على عنصرية إسرائيل وضرورة مقاطعة إسرائيل، أكاديميا وتجارياً، وفرض العقوبات عليها بالطريقة ذاتها التي مارسها العالم ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. هذه التعددية في الخطاب الفلسطيني، وتباعد المسافات بين الطروحات التي يقدمها كل طرف، أدت إلى تشويش الرأي العام الغربي، وبدت الرواية الفلسطينية غير متناسقة، غير متماسكة، غير مقنعة.
وأدى الانقسام الفلسطيني الواقع في (الوطن) وخارجه، وارتباك الخطاب الفلسطيني، إلى تمكين الراوية الإسرائيلية التي أعادت ترتيب نفسها بخطاب أكثر تماسكاً وتأثيراً، لم تظهر فيه الخلافات، وربما الانقسامات التي مرت بها الأوساط السياسية الإسرائيلية أيضا. وركزت الدعاية الإسرائيلية على إقناع العالم بأن الفلسطينيين المنقسمين على أنفسهم، المختلفين على المؤسسات، المتقاتلين بالسلاح على أموال الدول المانحة، الفاسدين... إلخ، لا يستحقون دولة يعترف بها العالم، ولا هم جديرون باحترام العالم. وأدى كل ذلك إلى تقزيم القضية الفلسطينية والمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وتضخيم الذات الفصائلية، وطغيان الأجندات الفصائلية الضيقة على حساب الرؤية الوطنية الجامعة.

تغييب الجاليات
أدى الانقسام الفلسطيني إلى تعطيل مؤسسات منظمات التحرير الفلسطينية، لا سيما المجلس الوطني الفلسطيني، المنبر الأول لتمثيل فلسطينيي الخارج، ومساهمتهم في صناعة القرار السياسي الفلسطيني. ومن المعلوم أن الجاليات الفلسطينية المنتشرة في العالم، كانت تُمثّل في أطر منظمة التحرير الفلسطينية بشكل ديمقراطي، عبر انتخابات تجري أفقياً في بلدان الشتات والمهاجر، وعمودياً عبر المنظمات الشعبية والنقابات المهنية، وتفرز ممثلين عن كافة طبقات الشعب الفلسطيني وشرائح وجوده. ولطالما شارك ممثلو الجاليات في المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس المركزي، واللجنة التنفيذية، مما منحهم صوتاً ودوراً في صناعة القرار الفلسطيني. وإن كان تمثيل الجاليات في مؤسسات منظمة التحرير قد تراجع بعد أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية التي هيمنت على دور المنظمة وهمشته، فإن الانقسام الفلسطيني الذي عطل الحياة "الديمقراطية" في الوطن، أعطب دور الجاليات الفلسطينية في صناعة القرار، وأبعد ممثلي هذه الجاليات عن مراقبة صانع القرار، الذي بات يتفرد بالقرارات التي طاولت الجاليات الفلسطينية ذاتها، وتجلى آخرها بخطوات الرئيس الفلسطيني في السيطرة على الجاليات الفلسطينية، لا سيما القرار الذي اتخذه في أغسطس/ آب الماضي، عندما وضع دائرة شؤون المغتربين، إحدى دوائر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، تحت إدارته وإشرافه، ثم ألحقها بوزارة الخارجية، التي غير اسمها إلى "وزارة الخارجية والمغتربين".
ويشعر فلسطينيو الشتات بالغبن والظلم من هذا التهميش والإقصاء، لا سيما أنهم "القوة الرئيسة في تأسيس حركة فتح، وهم القوة الدافعة خلف تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. وهم من أطلق الكفاح المسلح، وحملوا راية شعبهم ووطنهم في الجامعات والمجتمعات والدوائر السياسية الغربية، ولا سيما في أوروبا الغربية والولايات المتحدة"، كما يقول الباحث والأكاديمي الفلسطيني، المقيم في بريطانيا، بشير نافع.
حالة التغييب أو التهميش التي مارستها أجهزة السلطة الفلسطينية، لا سيما السفارات ومكاتب التمثيل الفلسطيني، وحالة الاستقطاب التي مارستها حركة حماس بين فلسطينيي أوروبا، وأميركا، وأميركا اللاتينية، ساهمت بشكل واضح، في تشظي الجاليات، وتبعثر الجهود، ونشوء كيانات هجينة تنقل الانقسام إلى الساحات الخارجية، ومثال ذلك تأسيس "مؤتمر فلسطينيي الخارج" الذي تعتبره السلطة محاولة للالتفاف على الشرعية الفلسطينية، وفي المقابل تعتبره حماس ومعها شخصيات فلسطينية مستقلة خياراً ديمقراطياً للتخلص من التفرد بالقرار الفلسطيني، ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي يهمين عليها فصيل فلسطيني واحد.

إضعاف الشعور الوطني
لا شك أن الانقسام، والانشطار الذي أصاب الجسد الفلسطيني، سياسيا وجغرافيا، أصاب في مقتل الشعور الوطني لدى أبناء الجاليات الفلسطينية في الخارج. فقد بات الفلسطيني يشعر باليأس بسبب سوء تصريف شؤون "الدولة" الفلسطينية التي كان يحلم بها. وقد ساهمت تصرفات طرفي الانقسام في تعميق ذلك، سواء بالممارسات غير الديمقراطية التي تسلكها أجهزة ومؤسسات السلطة في الضفة الغربية، أو تصرفات حركة حماس في قطاع غزة. وبالمحصلة تراجعت رغبة الفلسطيني، المُتمتع بالديمقراطيات الغربية، بالعودة إلى "وطن" تنتشر فيه آفات الفساد والمحسوبية وديكتاتورية الحكم، وتتنازعه مراكز قوى لا تتمتع بأي مشروعية أو شرعية. وساهم تركيز السلطة الفلسطينية على قضايا داخلية تهم أساسا سكان الضفة الغربية، وتركيز سلطة حماس على قضايا، تهم أساسا سكان قطاع غزة، في توسيع الشرخ بين أبناء الجاليات الفلسطينية في المنافي والمهاجر وسلطتي الأمر الواقع في الوطن، إذ ساد بينهم شعور بالتهميش لقضيتهم المركزية، أي الحق في العودة إلى مدنهم وقراهم في الأراضي الفلسطينية. وقد تولد هذا الشعور أساساً عندما تخلت منظمة التحرير الفلسطينية عن حوالي 87 بالمائة من فلسطين التاريخية، والاكتفاء بأراضي الـ1967، وهو التنازل الذي يبدو أن حركة حماس باتت قريبة منه، لا سيما بعد نشرها وثيقة "المبادئ والسياسات العامة" العام الماضي. وهكذا تزايد شعور الفلسطينيين المنفيين بالخذلان والإحباط، مع حاجتهم الماسة إلى مرجعية وطنية جامعة، تعيد اعتبارهم كشعب واحد، على الرغم من تباين أوضاع مجتمعاتهم وأولويات كل منها، في الوطن بأجزائه الثلاثة (الضفة وغزة والداخل) وفي بلدان اللجوء والشتات.

ماذا يريد فلسطينيو الشتات
في العديد من اللقاءات، والندوات، وورشات العمل، التي عقدها أبناء الجاليات الفلسطينية في أكثر من مدينة أوروبية، خلال السنوات العشر الأخيرة، تلخصت مطالب فلسطينيي الشتات في الغرب بضرورة تحقيق الوحدة الوطنيّة وإنهاء الانقسام باعتبارهما أولويّة قصوى وليستا مجرد خيار من الخيارات، بما يشمل إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينيّة، على أساس ميثاق وطني وبرنامج موحد، لما يشكله ذلك من ضرورة وطنيّة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وإحياء المشروع الوطني، انطلاقًا من التمسك بالحقوق والأهداف الفلسطينيّة، وخصوصًا حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين إلى ديارهم التي هُجِّروا منها.

المساهمون