ما بعد تقويض حل الدولتين

ما بعد تقويض حل الدولتين

27 يناير 2018
لا يمكن التعويل على أي موقف حقيقي من السلطة
+ الخط -

نشهد في الآونة الأخيرة ارتفاع وتيرة الأحداث التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال ممارسات قوى الاحتلال والقوى الداعمة له، سواء عبر التوسع في الحركة الاستيطانية أو عبر بعض الإجراءات الإدارية، ولاسيما المرتبطة بتقليل عدد البلدات العربية التابعة لمدينة القدس، فضلاً عن القرار الليكودي الأخير الداعي لفرض سيادة الاحتلال على جميع المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية، من دون أن ننسى عملية بناء جدار الفصل العنصري التي تلتهم بشكل دائم ومستجد العديد من البلدات والأراضي العربية، بالتزامن والانسجام مع إجراءات وتوجهات الإدارة الأميركية إجمالاً كزيادة حجم دعم أميركا للاحتلال الذي أقره الرئيس الأميركي السابق أوباما في نهاية حقبته، لنصل إلى الإعلان الأميركي عن الاعتراف بالقدس عاصمةً للاحتلال وعزم الولايات المتحدة على نقل السفارة الأميركية إلى داخل مدينة القدس في أقرب وقت ممكن، بالإضافة إلى التلويح الأميركي الأخير الذي يعلن صراحة ربط الدعم المالي للفلسطينيين بحجم التنازلات المقدمة من قبلهم، والتي بتنا نعلم أن لا نهاية حقيقية لها إلا بتصفية القضية الفلسطينية جملة وتفصيلاً.

لكن وعلى الرغم من كل الممارسات المذكورة سابقاً وغيرها الكثير إلا أننا أمام ثبات في رد السلطة الفلسطينية عليها، متمثلاً في اعتبار أن هذه الممارسات تقوض حل الدولتين، لنسمع مراراً وتكراراً عبارة تقويض حل الدولتين في كل تعليق من السلطة على ممارسات الاحتلال وداعميه، ولا سيما أميركا التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل هل من موقف جديد للسلطة بعد تقويض حل الدولتين؟ أم أننا في دوامة وسلسلة لا متناهية من تكرار هذه الأسطوانة الجوفاء، التي تذكرنا بأسطوانة مشابهة للنظام السوري عن الاحتفاظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين كرد دائم وثابت على جميع الضربات الجوية وغير الجوية التي يوجهها الاحتلال لسورية.

غير أن رد السلطة الحالي بديهي بعد الأخذ بالحسبان حجم وطبيعة قدراتها الراهنة، بعدما كتبت نهاية دورها الوطني بيدها منذ اتفاق أوسلو الشهير، عبر رفضها الاستماع إلى الأصوات الوطنية الفلسطينية والعربية المحذرة من هذا المآل والمفندة لتفاصيل الاتفاق وشروطه المفروضة علينا، كما رفضت الاستفادة من تجربتها ذاتها في نهاية حقبة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لتطوي هذه الصفحة بالمزيد من التنازل والاستسلام والارتهان لقوى الاحتلال وداعميه. فالسلطة اليوم عاجزة عن التصدي أو عن التلويح بالتصدي لأي انتهاك جديد لحقوقنا المستلبة، كيف لا وهي من رهنت مواطنيها -الفلسطينين داخل مناطق سيطرتها- لأموال المساعدات الدولية، سواء عبر استيعاب نسب البطالة في مؤسسات السلطة الأمنية والإدارية، أو عبر المنظمات غير الحكومية (NGOS)، مع العلم أنها بذلك تكون قد رهنت حياة مواطنيها اليومية لقوى الاحتلال ذاتها، كون الاحتلال هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في عبور الأموال لمناطق السلطة وفقاً للاتفاقات المبرمة. فضلاً عن الارتهان التجاري والخدمي والأمني والذي يطول الحديث في تفاصيله التي أعتقد أن مجملها بات واضحاً ومعلوماً للجميع، غير أن ما يعنينا من جميع هذه الظواهر اليوم إدراك حجم الضعف والعجز الذي وضعت القيادات الفلسطينية المتتابعة نفسها فيه، على الرغم من جميع الجهود التي بذلت للحول دون ذلك.

وعليه نستطيع الجزم باستحالة انتقال السلطة إلى مرحلة ما بعد تقويض حل الدولتين، وهو ما يحملنا نحن هذه المسؤولية المركبة، فمن ناحية نحن بحاجة للعمل على إصلاح حجم العطب والضرر الذي أصاب حركة التحرر العربية، والذي لا تتحمل السلطة وحدها مسؤوليته، بل يشاركها بها مجمل النظام العربي. وهو ما يجب أن يدفعنا لإعادة تفكيك بنية الاحتلال وتحديد طبيعته ودوره الوظيفي في المنطقة كمقدمة لإعادة الاعتبار لبرنامج التحرير وللرؤية الوطنية التقدمية المتمثلة بخيار الدولة العلمانية الواحدة. على الرغم من حاجة هذا الخيار للعمل طويل الأمد والبعيد عن الصخب الإعلامي وعن المزاودات العسكرية الإعلامية التي نشهدها على فترات متباينة والتي تتلاعب بمشاعر الوطنيين لجذبهم نحو هذه الجهة السياسية أو تلك، مع العلم أن غالبيتها إن لم نقل جميعها تفتقد للاستمرارية والرؤية بعيدة المدى، وغالباً ما كانت آثارها السلبية أكبر من إيجابياتها في ظل طبيعة وأهداف هذه القوى وفي ظل الظروف الراهنة.

وعلى الناحية الأخرى، لا بد من تعزيز الصمود وسبل المواجهة الأخرى، كمختلف أشكال النضال السلمي داخل فلسطين وخارجها وفي جميع الأوقات، والتي لا يمكن اعتبارها بديلاً مؤقتا أو دائما للعمل الفدائي، بل هي حاجة دائمة ومستمرة سواء امتلكنا القدرة والإمكانيات العسكرية لمواجهة الاحتلال أم لم نمتلكها. فمن إدراكنا لطبيعة الاحتلال الإجرامية ولواقع ممارساته الاعتدائية على أرض الواقع، علينا التمسك والاستعداد لممارسة حقنا في المقاومة والدفاع عن حقوقنا وأراضينا. بينما ونتيجة لوعينا لطبيعة الصراع المركبة والمتشعبة علينا الولوج وبكل قوة لشتى مجالات الصراع الاقتصادية والسياسية والإعلامية والحقوقية كذلك، وهو ما ينطلق من عدالة قضيتنا وتقدمية ثورتنا التي لا تستهدف القصاص الدموي من أي شخص أيد الاحتلال أو مثله الاحتلال في أي مرحلة من المراحل، بقدر ما تستهدف تفكيك حاضنة الاحتلال الاجتماعية، ودفعها نحو الانفضاض عنه عبر كشف أكاذيبه، وتوجيه الضربات القانونية والاقتصادية القاصمة لمراكز قوته اللوجستية، والتي لا تتعارض مع توجيه الضربات العسكرية النوعية التي تستهدف الحلقة الأمنية والعسكرية الأهم للاحتلال. فبذلك قد ننجح في تقليص حجم البنية البشرية التي يعتمد عليها الاحتلال، وبالتالي نقلل من حجم ومدة المواجهة المطلوبة، فضلاً عن احتمال نجاحنا في تقليل حجم وطبيعة مساعدات الاحتلال الرسمية منها والشعبية دوليا، إن لم ننجح في تحويل جزء منها -الشعبي- لدعم النضال والصمود الفلسطيني، بصورة تحاكي بعض نجاحات حركة المقاطعة العالمية.

لا يمكن التعويل على أي موقف حقيقي من قبل السلطة اليوم، إذ إنها لا تملك أي مقومات للمواجهة السلمية أو غير السلمية، كما لا يمكننا القفز على الوضع المحلي والإقليمي والدولي الراهن دون أي ترتيبات واستعدادات مسبقة، وهو ما نحتاج للعمل عليه اليوم، بذات الأهمية التي نحتاجها لتنمية وتنظيم أشكال النضال الأخرى الأكثر واقعية وذات التأثيرات الأقل سلبية على المجتمعين العربي والفلسطيني، والأبعد عن تحكم وسيطرة القوى الدولية والمحلية والإقليمية.