غزة الكبرى

غزة الكبرى

27 يناير 2018
إسرائيل وظفت انسحابها من غزة لإنهاء قضية فلسطين(فرانس برس)
+ الخط -

لم يكن لدى القيادة السياسية والعسكرية الصهيونية ولا النخب الفكرية بعد اتفاق أوسلو أي توجه لحل عادل للقضية الفلسطينية على أساس إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وإنما فقط مخطط لإنهاء الانتفاضة الشعبية الأولى، جوهره منح الفلسطينيين إدارة شؤونهم الذاتية لأكبر عدد من السكان على أقل مساحة ممكنة، أي قطاع غزة وعلى أقل من 40% من مساحة الضفة الغربية، ومع صعود اليمين الصهيوني للحكم بعد عام 1996 تسارعت الخطى نحو تطبيق الرؤية الصهيونية للحل مع الفلسطينيين وهي رؤية يكاد تجمع عليها معظم الأحزاب الصهيونية من اليمين أو الوسط أو اليسار، وبطريقة أو أخرى لا تعني هذه الرؤية سوى تصفية القضية الفلسطينية، بحيث يتم ابتلاع القدس وأكثر من 60% من الضفة الغربية، وتكريس واقع الكيان الفلسطيني في غزة بعد عزله عن مناطق الضفة الغربية التي ستنتهى إلى جزر من معازل وكانتونات في بحر المستوطنات.

شكل قطاع غزة المحور الأساس في مشروع تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما بدا واضحاً بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، بعد خمس سنوات من انتفاضة الأقصى التي أرهقت الوجود الاستيطاني والعسكري الإسرائيلي هناك، بدأ التنظير لمشروع الحل النهائي أو التصفوي للقضية الفلسطينية ولدولة غزة الكبرى عبر منبر مؤتمر هرتسيليا "ميزان المناعة والأمن القومي" الذي يقام سنويًا في معهد الدراسات متعددة المجالات في مدينة هرتسيليا.

ففي المؤتمر الخامس عام 2004 عرض مسؤول مجلس الأمن القومي السابق الجنرال في الاحتياط غيور آيلاند خطة "التسوية الإسرائيلية الدائمة"، والتي تشمل توسيع قطاع نحو سيناء بمساحة إضافية تقدر بـ 600 كيلومتر مربع؛ بطول 30 كيلومترا وعرض 20 كيلومترا من حدود قطاع غزة شرقاً إلى مدينة العريش غرباً، ومن الساحل شمالاً إلى جنوب رفح والشيخ زويد جنوباً، في مقابل حصول مصر على منطقة وادي فيران غرب النقب في فلسطين المحتلة بنفس المساحة تقريباً، وفي عام 2015 عرض آيلاند خطته المطورة بعنوان "البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين" لصالح مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية" والتي تشمل أيضا توسيع قطاع غزة نحو سيناء ولكن بمساحة مختلفة نسبياً.

وبالتوازي مع خطة آيلاند، طرح رئيس الجامعة العبرية السابق هيوشع بن آرية عام 2013 خطته "مشروع تبادل الأراضي الإقليمي" والتي تتقاطع في بعض تفصيلاتها مع خطة آيلاند، فقد عرض بن آرية في سياق خطته المطولة تنازل مصر عن مساحة من سيناء ملاصقة لغزة تقدر مساحتها ما بين 500 إلى ألف كيلومتر مربع تمتد على مسافة ما بين 20-30 كم من الشمال إلى الجنوب وبعرض مقارب غربا تجاه مدينة العريش، في مقابل حصول مصر على مساحة ما بين 200-500 كيلومتر مربع في منطقة "فاران ناحل" جنوب النقب في فلسطين المحتلة.

وهناك خطط أخرى أقل شأناً ولكنها تقع في نفس الإطار، مثل خطة عوزي أراد المستشار السياسي لرئيس الحكومة الإسرائيلية وجدعون بيجر والتي عرضت في مؤتمر هرتسيليا الثامن المنعقد في يناير/كانون الثاني 2008، إذ تناولت تفاصيل لتبادل الأراضي من بينها ضم مساحة من المناطق الملاصقة لقطاع غزة في سيناء إلى قطاع غزة.

السيسي – نتنياهو ودولة غزة الكبرى

تسلم بنيامين نتنياهو رئاسة الوزراء الإسرائيلية في انتخابات عام 2009 ميلادية وفي ذهنية مخطط تصفية القضية الفلسطينية بما ينسجم مع رؤية اليمين الصهيوني الديني والعلماني الذي تصدر المشهد السياسي مسنودا بقاعدة شعبية لا تختلف توجهاتها المتطرفة عن الائتلاف اليميني الحاكم؛ ضم الضفة الغربية باستثناء التجمعات الرئيسية للفلسطينيين (أقل من 40% من مساحة الضفة)، مع سلطة فلسطينية بصلاحيات بلدية ووظيفة أمنية، وطمس الهوية الإسلامية للقدس، وتحويل مشروع الدولة الفلسطينية إلى غزة الكبرى التي ستتوسع باتجاه سيناء المصرية وربما باتجاه البحر أيضاً.

لم ينتظر نتنياهو طويلاً، فبادر عام 2009 بعرض مشروع غزة الكبرى على الرئيس المصري في حينه حسني مبارك، غير أن الأخير رفض المشروع جملة وتفصيلا، ثم كانت الفرصة الذهبية لنتنياهو بعد الانقلاب العسكري بقيادة عبدالفتاح السيسي عام 2013 والذي رأى فيه نتنياهو العسكري المناسب للسير قدماً في مخططاته.

وفي وقت كان السيسي يعتبر إسرائيل البوابة الرئيسية أو الوحيدة نحو الاعتراف الدولي بانقلابه العسكري ومنحة الشرعية التي كان يفتقدها، وصمام الأمان لاستمرار الدعم الأميركي سواء المعونات السنوية، أو السياسية أمام أوروبا والمؤسسات الدولية، ولم يجد السيسي أهم من القضية الفلسطينية بالنسبة للإسرائيليين للمقامرة بها والمساومة عليها، في عملية توظيف سياسي لطالما استدعتها بعض الأنظمة العربية لتحقيق مصالحها الذاتية، لذلك قبلَ عرض نتنياهو بحماسة عام 2014، خاصة أن الإدارة الأميركية كانت على علم بالخطة وتفاصيلها، وبعد حرب عام 2014 على غزة بشهر تقريباً عرض السيسي الرؤية على الرئيس عباس التي سربت مصادر إسرائيلية مطلعة رفض عباس لها.

شمال سيناء وإفراغه من سكانه

رغبة نتنياهو واليمين الصهيوني في تصفية القضية الفلسطينية واختزال الوجود الفلسطيني في غزة الكبرى ودفعها نحو مصر والتي لا يرفضها الرئيس المصري راغباً أو متساوقاً، تواجه عقبات أهمها رفض الشعب المصري للتنازل عن أي أرض، والوجود الديمغرافي في شمال سيناء (رفح والشيخ زويد والعريش)، واعتراض قطاعات واسعة من جهات سيادية حسب التسمية المصرية للمخطط (وزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة)، وكان على السيسي تفكيك هذه العقبات بخطوات وإجراءات عملية، ونجح في تحقيق جزء منها وحولها واقعاً على الأرض:

- تدمير مدينة رفح بالكامل عبر المراحل الأربع للمنطقة العازلة التي يبلغ عمقها ألفي متر (ما زال العمل جارياً في المرحلة الرابعة)، تحت عنوان وقف التهريب وقطع خطوط الإمداد.

- تهجير حوالي 75% من سكان مدينتي رفح والشيخ زويد (عدد السكان حوالي 140 ألفاً قبل عام 2013 منذ بداية العمليات العسكرية في سيناء بعد الانقلاب العسكري).

- الضغط الإنساني والعسكري على ما تبقى من سكان رفح والشيخ زويد، وسكان العريش وبئر العبد عبر سلسلة طويلة من الإجراءات من قبيل القصف العشوائي والاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري وتقييد الحركة وتقنين الحاجات الأساسية.

- الاستثمار في صناعة ما يسمى "مكافحة الإرهاب في سيناء" لأسباب لا مجال لذكرها، لإضافة أسباب أخرى لتحويل حياة السكان إلى جحيم، عبر تحديد نشاطات الجماعات المسلحة دون القضاء عليها لطالما تخدم الهدف البعيد بتفريغ سكان شمال سيناء.

إنجاز على حساب الفلسطينيين

ومع اعتلاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب سدة الرئاسة، وجد في القضية الفلسطينية الفرصة التي من الممكن أن يحقق فيها إنجازاً في وقت كان الفشل سيد الموقف في مجمل ملفات السياسة الخارجية الأميركية، لذلك أوعز إلى فريق لا يعرف إلا القليل عن تعقيدات القضية الفلسطينية وأقرب إلى أفكار اليمين الإسرائيلي من بعض الأحزاب الصهيونية، مكون من صهره جارد كوشنر ومبعوثه للسلام في الشرق الأوسط جيسون غرينبلات وبالتشاور مع السفير الأميركي في إسرائيل مايكل فريدمان لوضع خطة ما يسمى بصفقة القرن، والتي بدت ملامحها منسجمة تماما مع مطالب نتنياهو والمؤسسة العسكرية والأمنية، الأهم فيها سيطرت إسرائيل على القدس ومعظم الضفة، مع التركيز نحو قطاع غزة عنوان الدولة الفلسطينية العتيدة في المرحلة الأولى، وفي المرحلة الثانية تضخيم مساحة غزة وتطوير بنيتها التحتية مع تطوير ميناء العريش، أو مطار وميناء ومنطقة صناعية بمحاذاة قطاع غزة في شمال شرق سيناء ولاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين التي يعجز القطاع بمساحته الحالية عن استيعابهم.

الصفقة صيغت بشكل كامل في مكتب نتنياهو، وأُطلع السيسي على خطوطها العامة خلال لقائه بالرئيس ترامب في مارس/آذار 2017 والتي تحدث فيها السيسي صراحةً عن صفقة القرن، ورغم الحرج الذي تسبب به الرئيس الأميركي لرئيس السلطة الفلسطينية وبعض القادة العرب بعد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونيته نقل السفارة الأميركية إلى القدس، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يرى أن البيئة الاستراتيجية المحيطة مواتية جدا للسير قدما في صفقة القرن، حيث التواطؤ والمشاركة من أطراف عربية (السيسي- محمد بن سلمان – محمد بن زايد)، وعدم اكتراث من باقي النظام العربي المنشغل بمشاكله، وضعف السلطة الفلسطينية وفقدانها لأي أدوات ضغط، لذلك فإن نتنياهو وفي ظل الظروف الموضوعية وحال عدم حصول مفاجآت، مُصر على السير قدما في مخطط تصفية القضية الفلسطينية بمشاركة بعض الأنظمة العربية، سواء تم طرح صفقة القرن أم لا، وسواء رفضت السلطة الفلسطينية أو فضلت الصمت وقبول الأمر الواقع.