زيارة بنس إلى المنطقة: محددات جديدة للدور الأميركي

زيارة بنس إلى المنطقة: محددات جديدة للدور الأميركي

27 يناير 2018
بنس خلال زيارته حائط البراق بالقدس المحتلة (فراني برس)
+ الخط -

أفضت زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس للمنطقة، وتحديداً إلى القاهرة وعمان وتل أبيب، لمجموعة دلالات غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الثنائية بين واشنطن وتل أبيب من جهة، وواشنطن والدول العربية من جهة أخرى، لا للظروف والبيئة التي يقوم بها بنس بالزيارة فقط ولا للبعد الديني الذي بدا في خطابه في الكنيست وهو ما عكسته بعض القراءات الصهيونية في الصحف العبرية، ولكن لأن توقيت الزيارة بدا وكأن المقصود به هو الابتزاز والاستفزاز، ابتزاز العواصم العربية واستفزاز الفلسطينيين الذين تعلم الإدارة الأميركية أنهم غاضبون وأنهم بحاجة لبعض الوقت حتى تهدأ عاصفة قرار نقل السفارة للقدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

وعلى الرغم من ذلك، مضت الإدارة الأميركية صوب سلوك أكثر إغضابا للفلسطينيين، لا سيما أن بنس هو أكثر المسؤولين الأميركيين ارتباطا بقرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهو المسؤول الأميركي الوحيد الذي وقف بجانب ترامب عندما أعلن عن قراره تجاه القدس، وعندما وصل إلى تل أبيب وألقى كلمته وصف ما فعله ترامب بأنه تصحيح لخطأ استمر 70 عاما.

هذه الدلالات كلها تدفع باتجاه قراءة واحدة أن الإدارة الأميركية مصرة على استفزاز الفلسطينيين وإغضابهم، وبالتالي دفعت ببنس شخصياً، وفي هذا التوقيت، ومررت الأمر عبر القاهرة وعمان، رغم أنه كان بالإمكان ألا تكون العاصمتان على جدول الزيارة التي كان ترتيبها مقصوداً بعناية.

قصد بنس من زيارة كل من القاهرة وعمان أولاً لم يكن تقديم أولوية أو أفضلية لكنه ترتيب مقصود، وكأنه يريد القول إن ما سيفعله ويقوله في تل أبيب لاحقاً يتم بعلم وموافقة ومباركة كل من القاهرة وعمان، وعدم لقائه بأي مسؤول فلسطيني يعني أيضاً في أحد معانيه أن القاهرة وعمان توافقان على القرار الأميركي حتى وإن أفضى لانتهاء أي فرص للتسوية والسلام تتجاوز الشريك الفلسطيني؛ بدا وكأن القاهرة وعمان لا تمانعان ألا يلتقي بنس بأي مسؤول فلسطيني.

اكتفت العاصمتان باستدعاء ضرورة التسوية وحل الدولتين والقدس الشرقية. بدا موقفهما كخطاب باهت لذر الرماد في العيون. لم يكن تعليق القاهرة وعمان على الزيارة كموقف سياسي يمكن البناء عليه، حتى وإن صرح بنس بأنه اتفق مع عمان على ألا يتفقا بشأن القدس، فهل هذا يمنع تنفيذ القرار مثلا أو يرفع كلفة تبعات اتخاذه؟

لقد بدا الرئيس محمود عباس أكثر استقلالية وأكثر غضبا وأكثر أريحية في رده على القرار الأميركي وفي موقفه من الإدارة الأميركية عندما رفض استقبال بنس؛ في حين بدت القاهرة وعمان وكأنهما متورطان في الأمر، وسيمتد التورط لكليهما مضافا لهما السعودية والإمارات لما هو أبعد من قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لتصبح هذه العواصم الأربع شريكة في تنفيذ وتمرير صفقة القرن.

بنس فكك أي تقارب ممكن حدوثه بين السلطة الفلسطينية والدور العربي، ووظف الرجل جولته جيداً، بدأ بالقاهرة التي لم تكن تمتلك رفض لقائه إطلاقا بل بدت وكأنها بالفعل بحاجة للزيارة بغض النظر عن دلالاتها، فالقاهرة معنية بالاقتراب من واشنطن خاصة، وخاصة أنّ الانتخابات الرئاسية المصرية على الأبواب، وبنس التقط هذه الإشارة ويدرك جيدا أن النظام في القاهرة بحاجة للاقتراب من واشنطن قبيل الانتخابات الرئاسية التي أخذت مساراً مختلفاً عقب إعلان سامي عنان ترشحه للرئاسة.

الأردن هي الأخرى بحاجة لواشنطن، خاصة في ظل حالة التوتر الحاصلة بينها وبين الرياض والإمارات، وهو توتر قيل إنه كاد أن يفضي لحالة انقلاب في الأردن، وبالتالي كانت عمان أيضا معنية بالاقتراب من واشنطن علها لا تمانع في كبح جماح التدخل الخليجي في شؤونها الداخلية. هكذا بكل سهولة ورط بنس كلا من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وكل ما بدر منه في الكنيست وأثناء زيارة إسرائيل سيرتد بشكل أو بآخر عليهما شعبيا وسياسيا، وخاصة أن شيخ الأزهر في مصر رفض لقاء بنس، والمعارضة الأردنية رفضت الزيارة ودانتها.

والأهم أن كلا الرجلين رحب بالزيارة وأعرب عن شكره للولايات المتحدة وأشاد بالعلاقات الاستراتيجية؛ إن حيثيات الزيارة وحفاوة الاستقبال قد عكستا جملة دلالات وانطباعات بأن القاهرة وعمان لم تكونا مجرد محطتين في زيارة نائب الرئيس الأميركي، وأن الأمر يتجاوز علمهما بنوايا واشنطن تجاه القدس ودورهما في صفقة القرن، بل سيصل دورهما إلى أن عليهما ترويض السلطة الفلسطينية وإجبار الرئيس محمود عباس على الجلوس والعودة للمفاوضات بالصيغة التي تريدها واشنطن وتضعها تل أبيب.

نجح بنس في إغضاب الفلسطينيين لا من الزيارة فقط ولكن من أشقائهم العرب، وهو ما عبر عنه عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صالح رأفت، الذي أبدى أسفه إزاء استقبال كل من مصر والأردن لنائب الرئيس الأميركي، إذ قال إنه من المؤسف أن يتم استقبال بنس من قبل الشقيقتين مصر والأردن بعد تصريحاته عشية زيارته للمنطقة بأنه تمّت إزالة القدس من جدول أعمال المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية وادعاءه بأن حلّ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على ضوء ذلك بات أسهل وفي متناول اليد من خلال صفقة القرن.

في المقابل، بدا موقف حركة حماس أكثر مرونة ودبلوماسية على غير العادة، واكتفت على لسان فوزي برهوم، الناطق باسم الحركة، بالقول إن زيارة مايك بنس للمنطقة غير مرحب بها ولا يوجد أي مبرر لاستقباله واللقاء به من أي مستوى كان. ودعا برهوم الجماهير والشعوب المحبة لفلسطين للإبقاء على حالة الرفض التام لهذه المشاريع الصهيو-أميركية والقائمين عليها، دون إبداء أي موقف من القاهرة وعمان واستقبالهما لبنس. في حين رأت حركة الجهاد الإسلامي، على لسان عضو مكتبها السياسي الشيخ نافذ عزام، أن زيارة بنس تصب في مصلحة إسرائيل وتهدف لفرض إملاءات جديدة وذر الرماد لاستئناف عملية السلام.

في حين تجاوز موقف الرئيس الفلسطيني رفض لقاء بنس إلى الذهاب للاتحاد الأوروبي، وفي الوقت الذي كان يلقي كلمته في الكنيست كان الرئيس عباس بالتزامن يعقد مؤتمراً صحافياً في بروكسل برفقة مفوضة الاتحاد الأوروبي ويشيد بالدور الأوروبي. قطعا لم يكن الأمر مصادفة، لكن الرئيس الفلسطيني يريد استدعاء الدور الأوروبي وتوظيف ذلك. أفلح الرجل لحد بعيد في الأمر، حتى بات واضحا أن الموقف الأوروبي لا يتقاطع مع الموقف الأميركي في ما يتعلق بالقدس وبعملية السلام وأن استفراد وتفرد واشنطن لم يعد متاحا، على الأقل في الرؤية الفلسطينية.

إن زيارة بنس لم تكن مجرد زيارة سياسية إطلاقا، فجزء أصيل من دلالات الزيارة ذو بعد ديني بحت، وبالتالي لسنا أمام مجرد نقل سفارة أو الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، بل نحن أمام مشروع أميركي متدحرج يريد أن يصل إلى إعلان إسرائيل دولة دينية يهودية بغض النظر عما سيترتب على ذلك، وهذه الرؤية الدينية عكستها عدة قراءات إسرائيلية بشكل مباشر وصريح وواضح.

أكتفي بما كتبه درور إيدار في صحيفة إسرائيل اليوم، فور وصول بنس لإسرائيل وقبل أن يلقي كلمته في الكنيست؛ اختار إيدار عنوان المقال كالتالي "بنس حاج: أكثر بكثير من زيارة سياسية"، وجاء في المقال: "فضلا عن الآثار العادية لزيارة زعيم أميركي لإسرائيل، فإن نائب الرئيس مايك بنس لا يأتي فقط في زيارة سياسية؛ فهو يحج إلى القدس كمسيحي مؤمن، خلفه توجد طائفة هائلة من المسيحيين الإنجيليين الذين يسمون المسيحيين الصهاينة، أي الذين يؤمنون بتحقق النبوءة التناخية (الكتب المقدسة اليهودية) عن عودة الشعب اليهودي الى صهيون".

ويضيف إيدار "المسيحيون الصهاينة يقرأون وعد الرب لإبراهيم كفريضة ووعد. بمعنى أن من يساعد الشعب اليهودي ودولته سيباركه الرب، ومن يقاتل اليهود ويعارض عودة صهيون يعاقبه الرب". وهذه الفقرة عينها أشار إليها بنس في كلمته في الكنيست ولكن بشكل مختلف، حيث قال إنه من الواجب على من يؤمن بإبراهيم أن يساعد اليهود!

بخلاف القراءة السابقة وبخلاف القراءة العربية عموما والفلسطينية على وجهة التحديد، جاءت قراءة صحيفة يديعوت أحرونوت مختلفة تماما، ففي افتتاحية الصحيفة كتب ألون بنكاس تعقيبا على وصول بنس لتل أبيب مقالا بعنوان "رجل لطيف جاء من أجل لا شيء"، ويصف بنكاس زيارة بنس في مقاله قائلا: "ها هو يأتي لزيارة البلاد. ظاهرا زيارة سياسية، هي جزء من السياسة الخارجية. زيارة سبقها تفكير وتخطيط، هدفها وسلم أولوياتها بحثا بعناية. وظاهرا فقط. أما عمليا، فهذه هي (زيارة ساينفلد). زيارة على لا شيء. زيارة بلا أهداف، بلا إنجازات لازمة، بلا تواصل في سلسلة سياسية مرتبة. مجرد زيارة. لطيفة، ولكن مجردة. رجل لطيف جاء للزيارة، وهنا كان يمكن إنهاء المقال".

يضيف بنكاس في افتتاحية يديعوت قائلا: "في الماضي، كانت زيارة نائب الرئيس ذات مضمون، معنى وغاية سياسية. تعزيز سياقات سياسية، رسائل مباشرة من الرئيس في مستوى فوق وزير الخارجية، حل مشاكل بتكليف من الرئيس، إطلاق بالونات تجريب من الرئيس بشكل غير مباشر لمنحه (القدرة المعقولة على النفي) إذا لم ينجح هذا و(مفعولا رئاسيا) إذا ما نجحت التجربة".

ختاما، فإن زيارة بنس عكست أبعاداً جديدة في ملامح الصراع وأبعاده وفي محددات الدور الأميركي، وهي زيارة ورطت القاهرة وعمان لكنها عكست أن هناك مساحة تمتلكها السلطة الفلسطينية باستدارتها باتجاه الاتحاد الأوروبي وهي استدارة مرحب بها أوروبياً. أمر آخر عكسته الزيارة أنه بخلاف كل الإدارات الأميركية السابقة بما فيها إدارة بوش الابن، فإن البعد الديني حاضر بقوة في السياسة الخارجية الأميركية تجاه إسرائيل، وهو بعد لم يكن غائبا، لكنه هذه المرة يتضح بشكل جلي، وهو ما قد يفضي لاستحضار البعد الديني لكل أطراف المنطقة وبالتالي سيتحول الصراع من صراع سياسي إلى صراع ديني، وحدوث ذلك سيفضي إلى تبعات لن يكون بإمكان أي طرف تحمل تبعاتها، وخاصة أن السلوك الأميركي الحالي يخدم اليمين المتطرف في إسرائيل.

المساهمون