أوسلو بين تلاشي "فتح" وتقدم "حماس"

أوسلو بين تلاشي "فتح" وتقدم "حماس"

30 سبتمبر 2017
قوات الأمن الفلسطيني في غزة عام 1994(باتريك باز/فرانس برس)
+ الخط -

نجحت حركة "فتح" منذ انطلاقتها مطلع العام 1965 في التقدم صوب المشهد السياسي الثوري والنضالي الفلسطيني، ورغم حداثة النشأة آنذاك إلا أنها قادت الحركة الوطنية الفلسطينية واستطاعت أن تكون رأس الحربة في المشهد ثم استدارت لتقود منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبحت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" المُعبر عن الحالة الفلسطينية ولم يعد ممكنا الحديث عن القضية الفلسطينية دون الحديث عن فتح، ولا سيما وقد جمع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بين رئاسة منظمة التحرير وبين قيادة حركة فتح.

وفرّ البعد التنظيمي الذي تبنته حركة فتح كحركة جماهيرية أريحية في القدرة على تبني والتماهي مع تطلعات الشارع الفلسطيني صوب الثورة والحرية والاستقلال، كانت فتح حالة متفردة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية هذا التفرد وتلك الجماهيرية هما ما جعل فتح توصف "بأم الجماهير" رغم ما تشمله الحالة الفلسطينية من مكونات أخرى موازية لكنها كلها مجتمعة لم تستطع إنتاج الحالة الفتحاوية حتى تم الوقوع في شرك أو فخ أوسلو.

تماهت فتح مع الجماهير واستطاعت أن تعبر عن الحالة الفلسطينية كلها وجمعت حولها ودارت معها في فلك منظمة التحرير الفلسطينية فصائل كثيرة، وقدمت فتح سيرة ومسيرة نضالية وثورية وعمليات فدائية يصعب حصرها والإتيان عليها كلها، لكنها تلاشت أو تكاد، بمعنى لم تستطع فتح الحفاظ على موقعها في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية. بدا ذلك وتجلى عقب توقيع اتفاق أوسلو أولا، وأثناء انتفاضة الأقصى ثانيا وانتهى بفوز حركة حماس بالأغلبية في الانتخابات التشريعية الثانية.

استغرقت فتح في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية وتماهت تماما مع منظمة التحرير الفلسطينية حتى بدا أن هناك خلطا غير مقصود ما بين فتح والمنظمة، وقد حدث أن البعض لم يعد يفرق بين المنظمة التي تتكون من مجموعة فصائل فلسطينية وبين حركة فتح كحركة تحرير وطني فلسطيني لها هياكلها ومبادئها ومواثيقها وقياداتها، وبين منظمة التحرير الفلسطينية، بقيت فتح على ذلك وأبقت على موقعها حتى استدارت منظمة التحرير الفلسطينية "برئاسة عرفات وقيادات فتح" لتغليب الخيار السياسي أو خيار التسوية، حينها لم يكن ممكنا فصل العلاقة بين فتح والمنظمة، مثلما هو حال إجابة السؤال الآن ترى من ذهب بمن نحو أوسلو المنظمة ذهبت بفتح أم فتح ذهبت بالمنظمة؟.

كان الذهاب إلى أوسلو فلسطينيا أشبه بالقفز من الكفاح المسلح والخطاب الثوري والاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي، إلى التسوية والسلام والمفاوضات والمباحثات، كان ذلك يحدث على وقع الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي قدمت فيها فتح وتقدمت أيضا. هذه مفارقة. عندما ذهبت القاعدة الجماهيرية للانتفاضة والاشتباك مع الاحتلال قررت فتح الذهاب صوب التسوية وبدون مقدمات. وتدرج الأمر حتى تحولت فتح من حركة تحرر وطني فلسطيني إلى حزب حاكم يقود السلطة الفلسطينية، نجحت فتح سابقا في استثمار موقعها في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وتحملت كل التبعات، لكنها عندما تقدمت لتقود السلطة الفلسطينية لم يكن بمقدورها تحمل تبعات هذا الموقع لأن المتغيرات التي تبلورت عقب اتفاق أوسلو فلسطينيا وعربيا وإقليميا ودوليا اختلفت تماما والموقع في قيادة المنظمة استحقاقاته مختلفة تماما عن الموقع في قيادة السلطة الفلسطينية.

 كان الموقع في المنظمة حالة نضالية ثورية لكن التموضع في سلطة فلسطينية أفضى لتحمل كل أخطاء هذه السلطة وتجاوزاتها. لا سيما عندما اصطدمت هذه السلطة بالمقاومة الفلسطينية، وتحولت فتح من حركة تحرر إلى نظام سياسي أحد مقوماته منع الاشتباك مع إسرائيل، هكذا تحولت العلاقات الفلسطينية من علاقات تنافسية نضالية ثورية تتسابق في أيهما يسجل سجل عمليات عسكرية أكبر إلى علاقات شبه رسمية في نظام سياسي لم يكن مكتمل الأركان، وباتت العلاقة بين فتح كتيار وطني وحركة حماس كتيار إسلامي كأي علاقة سياسية في الأنظمة العربية، كانت فتح تعبر عن السلطة وحماس تمثل المعارضة.

تمددت تبعات أوسلو واستغرقت فتح في المخرجات وتموضعت في السلطة وباتت الحزب الحاكم المطلوب منه تحمل كل تبعات الإخفاق. لم يكن موقع فتح في قيادة السلطة كما كان موقعها في قيادة المنظمة، كان التموضع في السلطة مغريا ومكلفا ومتطلباته كبيرة ولم تكن فتح تمتلك كل الإجابات والاستحقاقات، اصطدام فتح بواقع ما بعد أوسلو والصدام الذي حدث بين السلطة التي تقودها فتح وبين حركة حماس تجاوز الوصف بكونه علاقة سلطة بمعارضة، تبلورت حالة جديدة هي علاقة الندية والبدلية. انتقلت حماس من مواجهة فتح إلى فرصة أن تكون بديلا عنها، وعليه التقطت حماس فرصة التقدم صوب المشهد الفلسطيني فشكلت حالة فلسطينية رافضة لاتفاق أوسلو وقدمت خطابا استقى مفرداته من ممارسات السلطة أولا ومن إخفاقات أوسلو وتعثراته ثانيا ومن تسويف إسرائيل وتنكرها ثالثا.

لم تكتف حماس بتقديم خطاب سياسي بديل للمنظمة ولفتح وللسلطة، أو خطاب يتوقف عند حدود انتقاد أوسلو، لكنها تقدمت صوب الممارسة أيضا فاستحضرت العمليات العسكرية واستحدثت العمليات الاستشهادية، واستعادت الحالة الثورية النضالية التي تطلب اتفاق أوسلو نبذها وتجاوزها وإلغاء موادها من الميثاق الوطني الفلسطيني، وتقاطعت هذه التطلعات لدى حركة حماس مع ممارسات السلطة الفلسطينية، تلك الممارسات التي كانت موضع استهجان واستغراب لدى الشارع الفلسطيني المنحاز للمقاومة وللاشتباك مع العدو.

عندما استشعرت السلطة بقيادة فتح تقدم حماس صوب المشهد حاولت استدراك الأمر لكن الوقت لم يكن في صالحها، كان استدراكا متأخرا جدا، كانت حماس قد تقدمت كثيرا صوب المشهد. وعندما اندلعت انتفاضة الأقصى العام 2000 بدت حماس وكأنها كانت تتحضر لهذه اللحظة وتنظرها، في حين لم تنجو فتح من استحقاقات أوسلو ومن استحقاقات كونها حزب السلطة، ولم يكن ممكنا لها الجمع بين السلطة وبين المقاومة، وكان الرد الإسرائيلي عقب كل عملية عسكرية يستهدف مقدرات السلطة ومقراتها وإمكاناتها. وبات مطلوبا من فتح أن تتحمل تبعات عمليات حماس أيضا لا أن تتحمل موقعها في السلطة كحزب حاكم فقط.

بدت حماس كحركة أكثر تنظيما وأكثر حضورا سياسيا وجماهيريا واجتماعيا من فتح. حضرت وحلت في المواقع التي غابت عنها السلطة ودورها ووظيفتها. غلب على السلطة نوع من التراخي الاجتماعي لحساب القبضة الأمنية، لم يكن مطلوبا من حماس أن تتحمل أية أعباء اجتماعية أو اقتصادية لكنها نجحت في توظيف ذلك. شكلت حماس حالة خدمية وإغاثة بامتياز، وفي الوقت الذي تعددت فيه أجنحة فتح العسكرية بدت حماس أكثر وحدة وأكثر انضباط، وتجلت معالم ذلك سياسيا أيضا وليست عسكريا فقط عندما تحولت حماس للعمل السياسي الرسمي وأبدت نيتها المشاركة في الانتخابات التشريعية الثانية العام 2006، هذه الانتخابات التي فازت بها حماس بالأغلبية وانتقلت من خارج النظام السياسي الفلسطيني إلى عمقه، وانتزعت من فتح حزب السلطة الأغلبية وكانت هذه النتيجة أبرز معالم وملامح كيف أفضى اتفاق أوسلو لتلاشي حركة فتح من المشهد مقابل تقدم حركة حماس.

وأختتم بشاهد من شواهد القدرة على التوظيف السياسي لدى حركة حماس ورد في بيانها الصادر هذا الشهر بمناسبة مرور 24 عاما على اتفاق أوسلو والذي تقول فيه "أربعة وعشرون عاماً تمر وما يزال شعبنا الفلسطيني المجاهد يدفع فاتورة الذل التي وقّعت عليها منظمة التحرير الفلسطيني في أوسلو بتاريخ 13 سبتمبر/ أيلول 1993، ذلك الاتفاق المشؤوم والذي عرف بإعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي الهزيل؛ حيث كان سقوطاً كبيراً في مستنقع التنازلات وبداية المنحنى بالتفريط في حقوقنا الوطنية الثابتة). ثم تضيف في موضع آخر في البيان (إن اتفاق أوسلو خنق الشعب الفلسطيني وضرب عليه حصاراً مالياً وتجارياً وتُوج بحصار سياسي ظالم، فسمح لدولة الاحتلال بالسيطرة على اقتصادنا ومواردنا الطبيعية والتدخل بشكل سافر في تفاصيل حياتنا اليومية والمعيشية من خلال ملحق اتفاق باريس الاقتصادي). تغير موقع حماس من المعارضة إلي عمق النظام ومن رفض الانتخابات إلى المشاركة فيها، ولم يتغير خطابها من أوسلو. في حين أن فتح التي تحملت كل التبعات والتداعيات وخرجت من النظام السياسي لم تغير خطابها من أوسلو! ترى ماذا لو لم تدخل فتح أوسلو هل كان سيتلاشى حضورها وتتقدم حماس على حسابها. وماذا لو قررت كل من فتح وحماس الذهاب لأوسلو معا أو الذهاب للمقاومة معا.