ماذا تبقى من أوسلو؟

ماذا تبقى من أوسلو؟

30 سبتمبر 2017
حفل توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض(ديفيد آك/فرانس برس)
+ الخط -
يبدو للوهلة الأولى من العنوان السالف وكأن الفلسطينيين قد ضيعوا شيئاً، أو ربما أوحى السؤال بأن اتفاق أوسلو كان حدثا إيجابيا في تاريخ القضية الفلسطينية، حتى يُصبح البحث عن ما تبقى منه وكأنه استجداء أو استدعاء أو ضخ دماء جديدة فيه، لكن الموضوعية تقتضي أن تُعاد صيغة السؤال ليصبح ماذا فعل بنا أوسلو؟ بصيغة أخرى بعد حوالي ربع قرن ما الذي فعله اتفاق أوسلو بالقضية الفلسطينية ومكوناتها؟ وهل يمكن تجاوز الاتفاق أو الانقضاض عليه أو إنهاؤه أو التراجع عنه؟ ماذا فعل بنا أوسلو؟ ماذا أعطانا وهل أبقى لنا شيئا مما كان في يدنا؟ أم أن بقاءه والدوران في فلك حيثياته باتا قدر القضية الفلسطينية؟

لم يكن اتفاق أوسلو يتيما ولم يكن سيئا ولم يكن خيارا، كان آخر المتاح والممكن والمستطاع، تدحرج الاتفاق فأعقبه اتفاق غزة – أريحا، ثم اتفاق باريس الاقتصادي، ثم اتفاق طابا أو أوسلو 2، ثم وادي ريفر الأول والثاني، ثم خريطة الطريق، ثم اتفاق أنابوليس، هكذا تدحرجت الأمور وأفضت الاتفاقات لاتفاقيات جديدة ممتدة تارة وجامدة تارة، بوسطاء تارة ومباشرة تارة، متقدمة تارة ومتعثرة غالبا، لكنها كلها أفضت لنتيجة واحدة أفضت فلسطينيا إلى اللاشيء.

اعتراف مقابل اعتراف
كان من بين ما نص عليه اتفاق أوسلو أن تعترف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، فهل كانت المنظمة بحاجة لهذا الاعتراف من إسرائيل؟ وقد كانت من قبل ذلك حاصلة على عضوية مراقب في الأمم المتحدة ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1974، وسبقه اعتراف النظام العربي الرسمي بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط العام 1974. حتى وصلنا لإعلان الاستقلال في الجزائر، نوفمبر العام 1988، وبموجبه اعترفت 105 دول بإعلان استقلال فلسطين، هل كان اتفاق أوسلو فقط من أجل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية والآن بعد حوالي ربع قرن أين منظمة التحرير الفلسطينية؟ هكذا بكل بساطة ابتلع اتفاق أوسلو أفضل ما تم اجتراحه طوال عمر النضال الفلسطيني، ابتلع البيت الفلسطيني حتى تلاشت منظمة التحرير الفلسطينية لحساب سلطة حكم ذاتي. وتلاشت السلطة أو كادت بفضل انقسام سياسي بين أكبر قطبين مكونين للحركة الوطنية الفلسطينية. وكان ولا زال أحد المسببات هو اتفاق أوسلو.

اعترفت المنظمة في المقابل بدولة إسرائيل وعلى ما مساحته 78% من مساحة فلسطين التاريخية، مقابل قيام سلطة فلسطينية أو سلطة حكم ذاتي في الضفة وقطاع غزة، فمضت إسرائيل في التهويد والاستيطان والاستيلاء على الأرض الفلسطينية وأضافتها لحصتها من أوسلو التي وصلت لحوالي 80%، وماذا فعلنا نحن؟ تقاتلنا وباتت السلطة التي نشأت بموجب أوسلو موضع انقسام سياسي جغرافي. استغرقنا في تفاصيل الانقسام مبكرا عندما اختلفنا في الموقف من اتفاق أوسلو والذهاب إليه منذ اللحظة الأولى؛ كان معلوما أننا ذاهبون للانقسام ولجبهة فلسطينية تفاوض مقابل جبهة فلسطينية تقاوم، وبعدما تم توقع الاتفاق استدرنا لذاتنا وبات نبذ العنف وتحجيم جبهة المقاومة أحد أهم مخرجات اتفاق أوسلو.

تمدد الأمر، لم تعد جبهة المقاومة هي المستهدفة فقط، بل وصل حد إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني وإلغاء المواد التي تقول بمقاومة الاحتلال رغم أن الكفاح المسلح هو حق بإحقاق وإقرار القوانين والمواثيق الدولية. هكذا ابتلع أوسلو الفكر أيضا فتلاشى الكفاح المسلح من الفكر والممارسة ومعهما تلاشت المنظمة وهياكلها وتلاشى المشروع الوطني الفلسطيني وميثاقه. وأفضت الممارسات الإسرائيلية التي لحقت بما بعد أوسلو إلى انتفاء إقامة الدولة الفلسطينية وتلاشى حل الدولتين وتلاشت كل الفرص وكل الرهانات وكل المقومات. ولم تنسحب إسرائيل ولم يتوقف التهويد والاستيطان، كل شيء تلاشى حتى اتفاق أوسلو ولم يبق للفلسطينيين إلا الاحتلال.

حرص الذاهبون إلى اتفاق أوسلو على استحضار القضايا، لكنه حضور كالغياب، غابت القدس كعاصمة وكمدينة وكقلب، حولها اتفاق أوسلو إلى مجرد ملف، فبات ملف القدس وملف اللاجئين وملف الحدود وملف المياه. لم نفقد كفلسطينيين معالم وملامح القضية وفق اتفاق أوسلو، لكننا حولنا القضية الفلسطينية لمجموعة ملفات، وقبلنا أن نناقش هذه الملفات كلا على حدة، ثم تراجعنا عندما أجلنا نقاش هذه الملفات لمراحل لاحقة. كانت أوسلو واحدة من أكبر الخطايا السياسية في تاريخ القضية الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، لم تكن خطأ، كانت خطيئة، كانت أولى خطوات إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني. كانت أوسلو ولا زالت مشنقة المشروع الوطني الفلسطيني.

نحو ربع قرن مضى على اتفاق أوسلو بكل ما له وما عليه، ولم نقم حتى اللحظة بإجراء عملية تقييم ومراجعة على صعيدي الفكر والممارسة، لنجيب عن السؤال التالي: هل ربحنا من اتفاق أوسلو؟ هل حققنا مطالبنا؟ هل قدم لنا اتفاق أوسلو نصف ما نريد وكل ما كنا نتمنى؟ هل حفظنا ما كان في يدنا وهل حافظنا على مواقعنا؟ وأين التحرير والعودة من الفكر والممارسة الفلسطينية الآن؟ أين الاستقلال والدولة والسيادة والحدود واللاجئون؟ والأهم أين الوحدة الوطنية بعد عقدين ونصف من اتفاق أوسلو؟ ها نحن نمضي عقدا منهما ونحن على أنقاض الانقسام الذي كان واحدا من تبعات اتفاق أوسلو، ولا أظن أنه من الممكن والمقبول اجتراح مصالحة فلسطينية حقيقية دون اتفاق الكل الفلسطيني على موقف ثابت من اتفاق أوسلو، سواء كان هذا الموقف بالقبول أو الرفض. وهو ما يعني العودة للاتفاق على المسلمات الفلسطينية التي كانت قائمة ما قبل أوسلو.

مراجعة اتفاق أوسلو فلسطينيا والبحث في تبعاته لا يتعلقان بالاتفاق وحيثياته فقط، بل يلامسان الحركة الوطنية الفلسطينية بكافة مكوناتها، لأن واحداً من أهم تبعات الاتفاق هو تلاشي وتراجع الحركة الوطنية الفلسطينية واختصار المشهد الفلسطيني أولا والقضية الفلسطينية ثانيا والمشروع الوطني الفلسطيني ثالثا في سلطة مدنية فلسطينية هي في النهاية شكل من أشكال الحكم الذاتي الفلسطيني القائم على وقع وتحت حراب الاحتلال الإسرائيلي.

وأهم مقومات هذه المراجعة هي إعادة منظمة التحرير الفلسطينية للمشهد وإعادة الاعتبار لها ولمكوناتها ولهياكلها وبرامجها وإصلاحها وإعادة بنائها والحرص على اشتمالها على كل مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، خاصة التيار الإسلامي بشقيه حماس والجهاد الإسلامي، وأن يكون تمثيل الفلسطينيين عاماً وشاملاً وأن يكون تمثيلاً حقيقياً وموضوعياً يشارك الجميع في صناعة واتخاذ القرار الفلسطيني، لأن واحدا من خطايا الذهاب لأوسلو أنه كان قرارا منفردا ومتفردا وإن كانت المنظمة هي التي ذهبت صوب أوسلو. وقد كانت واحدة من القراءات المتاحة لذهاب المنظمة لأوسلو أنها أدارت ظهرها للوحدة الوطنية الفلسطينية.

لم يتبق من اتفاق أوسلو فلسطينيا أيا من معالم حركة التحرير التي تحولت إلى سلطة حكم ذاتي بات التنسيق الأمني أحد أهم مقوماتها، ولم يتبق من الفدائيين والمناضلين سوى موظفي سلطة يتلقون رواتبهم مقابل إنجاز وظائفهم؛ هكذا غرقت الثورة الفلسطينية في تفاصيل الإجراءات والتعليمات والبروتوكولات، وأصبح الفدائي موظف سلطة حكم ذاتي. توقفت الثورة وتوقف الحلم وتوقفت التعبئة وتوقفت البيانات، توقف إنتاج الفكر الفلسطيني القادر على وضع معالم خارطة التحرير الشامل للأرض الفلسطينية، لم تبق العلاقات الاجتماعية الفلسطينية كما كانت، لم يبق التوازن، أصبحنا اجتماعيا طبقات، طبقة المتنعمين بأوسلو وطبقة الناقمين عليها.

نجحنا في بناء أجهزة أمنية تعدت الأربعة عشر جهاز أمن، لكننا توقفنا عن إنتاج برنامج فلسطيني شامل وقادر على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته، نجحنا في بناء وزارات وهياكل إدارية، لكن بناء الإنسان الفلسطيني سقط من كل الحسابات، وأصبحنا سلطة فلسطينية تتقاطع وتلتقي ممارساتها مع ممارسات الأنظمة السياسية العربية.

فشلنا عقب أوسلو في تقديم نظام سياسي فلسطيني قادر على النهوض بالحالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضا، فلم يكن بإمكاننا كفلسطينيين محاسبة إسرائيل على تنكرها للاتفاق أو إلزامها بتنفيذه وفق الجدول الزمني المتفق عليه مسبقا. حتى النضال والمواجهة والانتفاضة لم نتفق على الحد الأدنى من تكتيكاتها، وعندما ذهبنا للمواجهة اختلفنا هل هي انتفاضة أم هبّة، وذهب البعض بعيدا عندما رفض عسكرة الانتفاضة، في حين استغرق البعض في عسكرتها لأبعد الحدود دون إجراء قراءة للمتغيرات الدولية والإقليمية وكيف وظفت إسرائيل المقاومة الحاصلة ووصفتها بالإرهاب، الأمر الذي وفر لها الغطاء والضوء الأخضر لتفعل بنا ما فعلته منذ بدء انتفاضة الأقصى عام 2000 وإلى الآن.

ربع قرن على أوسلو لم يتبق لنا من منظمة التحرير الفلسطينية شيء، ولم يتبق شيء من الثورة التي تلاشت، وتلاشت معها الوحدة الوطنية الفلسطينية، لم يتبق من الأرض الفلسطينية شيء وقد ابتلعها الاستيطان، سدت كل المنافذ الممكنة التي قد تفضي لإحقاق الحق الفلسطيني، أسقط فلسطينيو العام 48 من الحسابات، لم يتبق من استحضارهم في خطابنا شيء. حتى الانتفاضة الشعبية التي ابتدعناها وأبدعنا بها لم يعد ممكنا اجتراحها الآن، لم يعد الفعل الفلسطيني والإرادة الفلسطينية مثلما كان الحال قبل أوسلو، حتى حرية الاختيار لم تعد ممكنة الآن دون استحضار مقتضيات وجود السلطة.
ماذا تبقى لنا من أوسلو؟! يقول فاروق جويدة في واحدة من أهم قصائده قائلا: (ماذا تبقى من بلاد الأنبياء؟.. ما بين أوسلو.. والولائم.. والموائد والتهاني.. والغناء.. ماتت فلسطين الحزينة.. فاجمعوا الأبناء حول رفاتها.. وابكوا كما تبكي النساء.. خلعوا ثياب القدس.. ألقوا سرها المكنون في قلب العراء).
اتفاق أوسلو باختصار لم يفض لتحرير فلسطين ولم يبقها محتلة.

(كاتب فلسطيني)