مبادرات المصالحة الكثيرة: أين الخلل؟

مبادرات المصالحة الكثيرة: أين الخلل؟

27 اغسطس 2017
قلة الخبرة السعودية ساهمت بإسقاط اتفاق مكة(حسن عمار/فرانس برس)
+ الخط -
نجح الفلسطينيون في تقديم تجربة تحوّل ديمقراطي أُشيد بحيثياتها داخليا وخارجيا، واستطاعت حركة فتح، حزب السلطة، وحماس، حزب المعارضة، المرور إلى الانتخابات التشريعية الثانية مطلع عام 2007، مرت الحيثيات الأولية لكن إحداثيات النتائج أفضت لإفشال التجربة الوليدة، لا سيما أن حماس التي تشارك فتح لأول مرة في الانتخابات التشريعية فازت بالأغلبية الكاسحة، المفاجأة أفضت للاشتباك اللفظي والتراشق الإعلامي وتعطل تشكيل الحكومة وتعثر المسار الديمقراطي ومقتضياته.
جرت مياه كثيرة على مدار عشر سنوات وتعددت المبادرات التي قُدمت لإنهاء الانقسام الفلسطيني منذ عام 2007 للحد الذي يصعب معه استحضارها كلها، كان آخرها منذ أسبوعين مبادرة قدمها القيادي في حركة فتح وعضو المجلس الوطني نبيل عمرو، والذي كان شاهدا على اتفاق مكة، ما قبل الاقتتال. فأين الخلل في الوسيط أم في طرفي الانقسام أم في الاثنين معاً؟ بمعنى آخر لماذا لم تفلح كل المبادرات والوساطات على مدار عشر سنوات في تحريك ملف المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام؟


مزاد المبادرات
سبقت الإشارة إلى أنه لا يمكن الإتيان على كافة مبادرات المصالحة التي قُدمت لإنهاء الانقسام، ولكن هذا لا يسقطها، ولا سيما أننا نتعرض لإجابة سؤال أين الخلل، في الوسطاء أم في الأطراف؟ واحدة من أهم المبادرات، والتي تعد الأولى بل ربما رأس الحربة كانت اتفاق مكة، وهي المبادرة التي سبقت الاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة، والتي في تقديرنا لو قُدر له - اتفاق مكة - النجاح لتجنب المشهد الفلسطيني كل هذه السنوات من الانقسام. كان البند الأول في اتفاق مكة ينص على حرمة الدم الفلسطيني، لكن ما إن عاد الفرقاء الأشقاء لغزة حتى بدا وكأن الاحتكام للسلاح هو الخيار الوحيد بينهما، فوصلت النتائج ما وصلت إليه الآن.


لم يصمد اتفاق مكة، والذي وقع في الثامن من فبراير/ شباط 2007، سوى أشهر قليلة. سقط وأُسقطت معه كل المحرمات، ودون التعرض لظروفه وحيثياته وتفصيلاته فإن الاتفاق لم ينجح في اختبار الدور السعودي الذي قفز للمشهد الفلسطيني من دون سابق معرفة بمكوناته وحيثياته وإحداثياته.
تمدد الانقسام وتعددت المبادرات والنتيجة ما زالت صفراً، وتدحرج الانقسام حتى بلغ تفاصيل الحياة اليومية للشعب الفلسطيني من ماء وكهرباء ورواتب ومعابر. إن التوصيف الأدق لمزاد المبادرات يشير إلى أنه سباق فلسطيني داخلي وعربي خارجي لتقديم المبادرات من أجل المبادرات فقط. الجميع استغرق في تقديم المبادرات، لم يتبق طرف فلسطيني أو عربي داخلي أو خارجي إلا وقدم مبادرة ولو من باب تسجيل موقف فقط. حتى إن طرفي الانقسام قدّم كل واحد منهما مبادرة لإنهاء الانقسام وكأنهما خارج الانقسام وليسا طرفاً أصيلاً فيه.



الإخفاقات والمسببات
توالت المبادرات وكثرت حتى باتت نتائجها السلبية عبئاً أفضى للإحباط واليأس لدى الشارع الفلسطيني الذي لم يعد مهتما ولا ملتفتا لأية مبادرة تطرح. هذا الكم من المبادرات كشف العجز لدى طرفي الانقسام بل لدى النخبة ولدى كافة مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية ولدى وحدات النظام الإقليمي العربي، بدا كأن الانقسام بات مرحلة في مراحل الحياة الفلسطينية، بدأ الناس يتعايشون معه، وبدأت حركتا حماس وفتح تتكيفان مع حيثياته وإحداثياته، وغابت تبعاته وتداعياته، لم يعد أحد يريد البحث في تبعات الانقسام، حتى حدثت عملية استنزاف. وللدقة أفضى الانقسام لحالة من الإلهاء الفلسطيني عن الممارسات الإسرائيلية التي أسقطت عن قصد أو بدون من الحسابات الفلسطينية. ولكن لماذا فشلت المبادرات واستمر الانقسام رغم كل التبعات والتداعيات المترتبة عليه.



لماذا فشلت المبادرات؟ أين مكامن الخلل؟ قبل ذلك سأتوقف عند سؤال لماذا فشل اتفاق مكة؟ والذي لو قدر له النجاح لتجنبنا كفلسطينيين كل ما آلت إليه الأمور على مدار عشرية كاملة. فقد فشل الدور السعودي لأنه كان عبارة عن قفز إلى السفينة الفلسطينية. قفز لا أساس له ولا أرضية ولا مقدمات ولا معرفة بملابسات وحيثيات ومكونات المشهد الفلسطيني، وقد اقتحمت السعودية عمق الدور المصري الذي كان الأقرب والأكثر دراية، بل كان رجال الوفد الأمني المصري في غزة يضبطون إيقاع العلاقة بين فتح وحماس ميدانياً، وما إن غادر الوفد الأمني المصري حتى طار وفدا فتح وحماس إلى السعودية من دون التوقف في القاهرة الراعي التقليدي للملف الفلسطيني.
لم تكن القاهرة لتقبل بأن يُسحب منها الملف الفلسطيني هكذا بهذه السلاسة، لم تكن علاقة القاهرة بالرياض عام 2007 مثلما هي الآن، كانت كل عاصمة تبحث لها من موضع قدم في لعب دور إقليمي، ولم تكن القاهرة لتقبل بالقفز السعودي، لكنها لم تكن هي السبب في فشل اتفاق مكة. كانت هناك أسباب تتعلق بطرفي الانقسام سآتي على ذكرها وأسباب تتعلق بالدور السعودي نفسه. فقد كان يغلب على السياسية الخارجية السعودية الاتجاه الانعزالي عن القضايا العربية عموماً وفلسطين على وجه التحديد. كانت السعودية قد اكتفت بتقديم مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002، والتي لم تقبل حركة حماس بكل ما ورد فيها، واعتبرتها فتح وكأنها تجاوز لها، لا سيما أن المبادرة قُدمت على وقع حصار إسرائيل للرئيس الراحل ياسر عرفات، وبالتالي كان هناك "وجوم" فلسطيني فتحاوي حمساوي مشترك من الدور السعودي، والأهم أن السعودية أسقطت من حساباتها العلاقة بين سورية وإيران وحركة حماس؛ ولم تكن القاهرة أولاً وسورية وإيران ثانياً لتسمح بنجاح السعودية وتقدمها صوب المشهد الفلسطيني في هذا الوقت الحرج من تاريخ المنطقة، والأمر يمتد أيضاً لعلاقات فتح التاريخية والتقليدية بالقاهرة.
الذهاب لمكة فلسطينياً كان مجاملة للسعودية فقط. جهل السعودية بإحداثيات الملف الفلسطيني وتعقيداته تمثل في اكتفاء السعودية بتخصيص ثلاثة أيام فقط لإنجاز الاتفاق الذي جاء غامضاً فضفاضاً ويحتاج كل بند فيه لمزيد من الأيام والمباحثات والديباجات والدقة لفهم تفاصيله ومقتضياته. والأهم أن السعودية استبعدت كل الشركاء الإقليميين المهتمين بالملف الفلسطيني، وهو عين ما فعلت حماس وفتح اللتان استبعدتا كل الشركاء داخل الساحة الفلسطينية، فبدا الاتفاق منفصلاً ومنفصماً عن الواقع العربي والفلسطيني. لم يكن لاتفاق مكة ظهر عربي داعم ولا مساند فلسطيني حاضن.



أين الخلل؟
إن الخلل في كل الأطراف. ولا يمكن بعد عشر سنوات إعفاء أي طرف وأي وسيط داخلياً كان أم خارجياً من ذلك، الوسطاء لم يكونوا جادين والجاد منهم لم يمتلك أوراقاً كافية لتنفيذ مبادرته ورؤيته، وطرفا الصراع لم يتوافر لديهما الحد الأدنى لإنجاح أي مبادرة، كل المبادرات بُنيت على عدم الثقة، المشترك الغالب في الفشل هو انعدام الثقة وتآكلها وتشكيك فتح في شرعية حماس وتشكيك حماس في شرعية الرئيس أبو مازن، هكذا باتت الشرعية المكتسبة من الانتخابات هي مدخل أو معول إفشال الالتقاء والتصالح، حماس تظن أن الأغلبية التي حصلت عليها في الانتخابات ستعني أن تسلم فتح وتسلمها كل مقاليد النظام السياسي الفلسطيني، وفتح استحكمت عليها عقيدة أنها أول الحجارة وأول الطلقات وأنها الوريث الشرعي للحركة الوطنية الفلسطينية وإن فوز حماس في انتخابات تشريعية كانت تقاطعها لا يعني أن تسلمها كل شيء.
كان الخلاف وما زال بين فتح وحماس أعمق من أن تنهيه نتائج الانتخابات التشريعية بل والرئاسية لو كانت حماس شاركت فيها. حماس تستحضر الشرعية النضالية شرعية المقاومة، وفتح تستحضر الشرعية التاريخية، ونحن نستحضر الشرعية الانتخابية، وغاب عنا جميعاً أن هناك شرعية أخرى تصنع ملامح المشهد الفلسطيني توافقاً كان أم مصالحة أم انقساماً، هي شرعية القبول الخارجي عربياً وإقليمياً ودولياً، هذه الشرعية أُسقطت من حساباتنا لذلك فشلنا وفشلت كل المبادرات لأنها غيبت المحددات الإسرائيلية والأميركية والإقليمية.
لم يكن ممكناً نجاح مبادرة لا تتوافق مع تطلعات إسرائيل، ولم يكن ممكناً أن تمرر حماس مبادرة لا يقبل بها حلفاؤها، ولم يكن للقاهرة أن تمرر مبادرة تستبعدها، هكذا بات المشهد وهكذا سيبقى. تقديم المبادرات لا يكفي ولا يُعفي أحداً من مسؤولياته.