الدور العربي في إذكاء الانقسام

الدور العربي في إذكاء الانقسام

27 اغسطس 2017
إغلاق معبر رفح ساهم في خنق الفلسطينيين (مصطفى حسونة/الأناضول)
+ الخط -
ارتبطت القضية الفلسطينية بمجموعة عوامل مؤثرة ومتداخلة لا يمكن عزلها عن البيئة المحيطة، خاصة الشق العربي منها. ودون استغراق في التاريخ، فإنه لا يمكن عزل الدور العربي الرسمي عن صناعة وصياغة ملامح الحركة الوطنية الفلسطينية ومكوناتها وتطوراتها، ولا يمكن فهم المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية بمعزل عن الدور العربي ما قبل النكبة وما بعدها، وامتداد الدور العربي لكافة التفاصيل الفلسطينية حتى وصلت الحالة الفلسطينية للانقسام، وإن كان الانقسام الحاصل بين فتح وحماس ليس وليد اللحظة وقد سبقه انقسام النشاشيبي والحسيني، لكن الأهم أن الدور العربي تاريخياً لم يتفق على رؤية استراتيجية واحدة موضوعية في التعاطي مع القضية الفلسطينية مقاومة كانت أو تسوية أو انقسام، بل إن واحدا من محددات الصراع والتنافس والتوتر العربي – العربي كان القضية الفلسطينية. وواحد من أسباب الخلاف والاختلاف والانقسام الفلسطيني – الفلسطيني هو الدور العربي ومحدداته وحساباته.

بدا الدور العربي أكثر حضورا وتأثيرا في إذكاء الانقسام بين حركتي فتح وحماس منذ العام 2007 وحتى اللحظة، وهو ما يأتي معاكساً لأدوار عربية سابقة خلال مسار القضية الفلسطينة، إذ لم يفلح العرب في الحيلولة دون وقوع النكبة الفلسطينية العام 48، ولم تمنع الدول العربية مجتمعة حدوث نكسة العام 67 والتي لم تحتل إسرائيل بموجبها باقي فلسطين والقدس فقط بل واحتلت مساحات من الدول العربية أيضا. ولم يقف العرب مع منظمة التحرير الفلسطينية في صراعها، وعندما انحازت المنظمة للعراق مطلع التسعينيات عوقبت المنظمة بقطع الدعم المالي "الخليجي" حتى وصل الحال لاستحالة أن تكمل المنظمة مشوارها؛ فاستدارات، بفعل الدور العربي، للتسوية السلمية لا كخيار ولكنها كانت مجبرة. لم تكن الأنظمة العربية الرسمية بريئة من التغول والتوغل في الدم الفلسطيني الذي استباحته غالبية العواصم العربية، وهذا أمر بالمناسبة يطول شرحه والتعرض له، ولو عددنا الفشل والتراجع والتقاعس والخذلان العربي لقضية فلسطين أولا وللقضايا العربية الداخلية ثانيا لصعب حصر الأمر.

عندما اقتتل الفلسطينيون في شوارع غزة وانقسمت السلطة الوليدة نتيجة مخاض أوسلو بين فتح وحماس، ماذا فعل العرب الرسميون وغير الرسميين؟ ماذا فعلت دول الطوق ودول الجوار؟ لماذا أخفقت 22 دولة عربية مجتمعة في جامعة عربية عمرها أكبر من عمر النكسة والنكبة والانقسام في اجتراح أو إجبار أطراف الانقسام الفلسطيني على المصالحة؟ وهل من مصلحة عربية حقيقية في بقاء الانقسام الفلسطيني؟ هل التنافس العربي في البحث عن دور أو في البحث عن وصاية على القضية الفلسطينية ومكوناتها هما سبب استمرار الانقسام؟ هل الاقتراب من الاحتلال تطبيعا أو أملا في علاقة أعمق مع واشنطن وإرضائها هما المانع من دور عربي فعلي وحقيقي ومُجمع ومُجتمع على ضرورة إنهاء الانقسام الفلسطيني؟ لماذا يستمر الانقسام الفلسطيني؟ ولماذا تدحرج الانقسام وتمدد حتى بات انقساماً عربياً – عربياً أيضاً؟ إذا لم يتفق العرب وتتحد كلمتهم على الالتفات للقضية الفلسطينية ودعمها ومساندتها وعلى مواجهة الاحتلال والتحديات فما هو المتغير الموضوعي الذي يُمكن أن تجتمع عليه الدول العربية؟

بلغ التعاطي العربي مع الانقسام الفلسطيني أن اقتراب الدولة "سين" من حماس يفضي لاقتراب الدولة "صاد" من فتح، والعكس صحيح، فاقتراب فتح من دولة ما يعني ابتعاد حماس عن هذه الدولة. هذه ليس علاقات ولا تحالفات، لكنها وببساطة شديدة، مناكفات لا تليق بالدول ولا بحركات التحرر. هكذا بات الجميع يحتكم لمنطق المناكفات. ومنذ اللحظة الأولى لفرز نتائج الانتخابات التشريعية الثانية اتضح التباين في ردود الفعل العربية وفي التعاطي مع الحالة الفلسطينية؛ قبل الانتقال لمربع الانقسام، كان هناك تباين عربي وغضب عربي مستتر من قدرة الفلسطينيين على اجتراح تجربة انتخابية تحت حراب الاحتلال. كانت تجربة محرجة للدول العربية التي تدعي الديمقراطية والشراكة السياسية، كانت هناك أمنية عربية رسمية تتمنى أن تفشل التجربة الديمقراطية الفلسطينية.
كان فوز حماس بالأغلبية، وهي النتيجة التي قبلت بها فتح وأقرتها وهي المنافس التقليدي لحماس، موجعة ومفجعة للدول العربية التي وجدت في إشراك إسلاميي فلسطين في الانتخابات واشتراكهم في الحكومة معضلة بالنسبة إليها. عندما اتفقت فتح وحماس على الذهاب للانتخابات والاحتكام للناخبين كانت العديد من الدول العربية تعيش على وقع الصراع بينها وبين إسلامييها. لم تقبل هذه الدول باستمرار التجربة الفلسطينية وعملت على تعطيلها وتمرير تجربتها في الصراع والصدام ونقلها للحالة الفلسطينية، فكان الانقسام بين فتح وحماس، وهو انقسام لا يخلو من الروافد العربية التي عززته ومولته ودعمته عواصم عربية كثيرة كانت ترى في فوز حماس وقبول فتح معضلة ستمتد إليها إذا ما قرر إسلاميوها تكرار التجربة الفلسطينية. لا يمكن تجاهل الصراع بين الأنظمة العربية والإسلاميين في الموقف من الحالة الفلسطينية ومن الانقسام الفلسطيني، تجربة الأنظمة العربية مع الإسلاميين أولا ومع الانتخابات والتحول الديمقراطي ثانيا هما المحدد الأبرز في التعاطي العربي مع الانقسام الفلسطيني سواء اقترابا من فتح أو ابتعادا عن حماس.


غلب على التعاطي العربي مع الانقسام الفلسطيني أمران، الأول الدخول المفضي لإخراج طرف، بمعنى أنه حتى تُقدّم السعودية مبادرة يجب إخراج مصر، وهكذا كلما تقدمت عاصمة عربية صوب إنهاء الانقسام الفلسطيني كان التقدم يفضي أو يقتضي خروج اللاعب السابق أو الفاعل السابق، كل وسيط يبدأ من الصفر، لم تحدث عملية بناء وتراكم مبادرات وتُكمل العاصمة الفلانية دور العاصمة السابقة، لم يكن هناك تكامل في الرؤية ولا تجانس في الطرح، حدث نوع من التنافس المذموم. وبعض التدخلات العربية لم تكن لإنهاء الانقسام لكنها استهدفت إفشال دور عربي آخر كاد أن يقترب بفتح وحماس من إحداث مصالحة، ووصل الأمر بالدور العربي لإبقاء الانقسام أن دعمت دول حركة فتح، وهو دعم بدا وكأنه مشروط، ودول أخرى دعمت حماس، وبدا أن دعمها محكوم بضرورة ألا تقترب حماس من فتح. وكلاهما، حماس وفتح، وجدا في هذا الدعم المنفرد تعزيزاً لبقائهما وحضورهما وعنادهما. الدور العربي استغل فرضية أن حماس ترى أنها صاحبة الحق، وفتح ترى أنها رأس الحربة التقليدي. أما الأمر الثاني الذي غلب على التعاطي العربي مع الانقسام الفلسطيني فهو الخروج والابتعاد، وهو ما غلب على تعاطي دول المغرب العربي التي لم تتقدم بمبادرة ولم تقدم رؤية ولم تحرص على سماع رواية فتح أو رواية حماس، بدا وكأن انقسام الحالة الفلسطينية لا يعنيها إطلاقا رغم ما يترتب وما ترتب من تداعيات للانقسام على القضية الفلسطينية. الابتعاد عن الانقسام وعن حماس وعن فتح يعني بالضرورة ابتعاد عن فلسطين، القضية المركزية للأمة.

تقاطع الدور العربي من الانقسام مع المصلحة الإسرائيلية باستمراره، هنا تكمن قراءة مستبعدة لكنها واقعية ومتاحة أن الانقسام الفلسطيني مصلحة إسرائيلية بحتة، ورغم ذلك حرص الدور العربي على بقائه، وكأن لسان الحال يقول بالتعاطي مع كل ما يُفضي للمصلحة الإسرائيلية. والبعض استشعر غضباً أميركياً قد يتشكل إذا ما انتهى الانقسام الفلسطيني، وجل العواصم العربية لا تجرؤ على إغضاب واشنطن. البعض وجد في استمرار الانقسام إمكانية الدخول للوساطة بين حماس وواشنطن أو بين حماس وتل ابيب ولو من باب نقل الرسائل، وبالتالي استمرار الانقسام سيخدم هذه الرؤية. خوف العرب من الإسلاميين لم يمنعهم من دعم حماس والقبول على مضض بوجودها في النظام السياسي الفلسطيني، ليصبح هؤلاء لاحقا وسطاء بين حماس وأوروبا وواشنطن وربما تل أبيب. وقد نجحت بعض العواصم العربية في اجتراح هدنة أو تهدئة بين حماس وإسرائيل، لكن إذا تعلق الأمر بمصالحة بين فتح وحماس، توقف الأمر وتجمد وتلاشت حظوظه..!


لقد أفضى الدور العربي في إذكاء الانقسام إلى بلورة حالة من التعايش الفلسطيني مع الانقسام والقبول به، تماما مثلما تبلور التعاطي العربي مع الانقسام القُطري العربي، فعلى مدار أكثر من ستين عاما فشل العرب في تحقيق الوحدة العربية في ما بينهم وتعايشوا مع هذا الواقع العربي. وتطور الأمر أخيرا حتى بات هناك سوط عربي لأية دولة تريد الاقتراب من طرفي الانقسام الفلسطيني والوقوف على مسافة واحدة. لم يتوقف الدور العربي عند الحرص على إبقاء الانقسام، ولكن امتد للتعرض لأي طرف يريد إنهاءه، وإن واحدا من أسباب حصار قطر هو استدارتها لفلسطين واقترابها من فتح وحماس وقدرتها على اجتراح اتفاق الدوحة، وهو ما أخفقت وفشلت في تحقيقه الدول التي تتهم حماس وقطر بالإرهاب.