التغافل... تركيز تربوي أم راحة بال؟

التغافل... تركيز تربوي أم راحة بال؟

26 يوليو 2017
التربية بالتغافل تزيد من ثقة وحب الطفل لوالديه (Getty)
+ الخط -
التربية بالتغافل من الأساليب التربوية التي أظهرت حديثاً فعالية كبيرة في السيطرة على سلوكيات الأطفال والتي بدورها تُقلّل من انتقاداتهم لأبنائهم والتي تضعف ثقتهم بأنفسهم، فيتجنبون مجالسة آبائهم والتحدث إليهم، ويصابون بالعزوف عن تجربة الجديد مخافة الفشل والانتقاد فيفضلون المنطقة الآمنة.

وقد اعتمد بعض الآباء هذا الأسلوب التربوي ومن خبراتهم تقول آلاء: "يعتمد التغافل على مبدأ أن الأطفال يحتاجون إلى انتباه والديهم لهم، فأنا كنت لا أنتبه لسلوكيات ابني الجيدة، مما دفعه للقيام بسلوكيات سيئة، وتأكد لديه أن ذلك أسرع طريق لجذب انتباهي، حتى لو كان مرتبطاً بالعقاب بعدها! ومع دعم سلوكياته الجيدة، أصبح التغافل هو تأكيد له أن تصرفاته المزعجة لا تجذب انتباهي، مع مراعاة تجاهل السلوك لا تجاهل الطفل ذاته، ويحتاج ذلك إلى الصبر من الوالدين".



إنما فاطمة واجهت صعوبات في البداية حيث تقول: "وجدت صعوبة في تجاهل سلوكيات أولادي المزعجة، وكنت أغضب سريعاً، واكتشفت أن السبب أن أبي وأمي ربوني على الكثير من التوبيخ والنقد، وأصبحت انتهج نفس المنهج دون وعي".
ويختلف معهم محمود قائلاً: "اعتمدت زوجتي هذا الأسلوب فوجدتها تريح بالها من متابعة سلوكيات الأبناء، وتدهور حالهم".


جلب الاهتمام بالعقاب
توجهنا إلى د. حاتم الهندي أستاذ الطب النفسي بجامعة الملك فهد والذي يتحدث قائلاً: "التغافل يؤكد للطفل أن السلوك السيئ لا يجلب اهتمام الوالدين، والثناء على السلوك الحسن بعد تجاهل
السلوك السيئ يساعد على تعزيز الرغبة في انتهاج السلوك الجيد لدى الطفل، فالتغافل يحد من سلوكيات الطفل المزعجة، وبالثناء تؤكد له السلوكيات التي ترغب في أن تكون بديلاً عن تلك المزعجة، وعندما يشعر الطفل بحزمك، وعدم ترددك في التعامل مع سلوكياته السيئة، ويشعر في ذات الوقت باحترامك وتقبلك له كابن، فإنه يتحمس لتغيير سلوكه إلى ما يسعدك ويجلب الثناء عليه.

والتغافل له بعض الشروط أولها أن تبعد وجهك وجسدك عن طفلك أثناء قيامه بالسلوك السيئ، مع إخفاء مشاعر غضبك واستيائك عنه، وأن يفهم أنك تركز فيما يفعل، لكنك تنتظر أن يُظهر سلوكاً حسناً لتثني عليه، مع استخدام التجاهل - من قبل جميع من حوله- في كل مره يصدر السلوك السيئ، مع ضرورة الالتزام بالصبر والهدوء ، وهذا بالتأكيد ينتج طفلاً يشعر بأمان فتطمئن نفسه بعدما شعر بحُبِّ الأبوين وحكمتهم، فأصبح يمارس حَقَّهُ في الخطأ والتعلم من أخطائه.

وعن فكرة التغافل يضيف قائلاً: "الأبوان لا يفكران في الثناء على الطفل وهو يأكل طعامه من دون أن يسقطه على الأرض، أو وهو يرتب غرفته وألعابه، لكن إن هو أسقط طبق الطعام، أو ترك غرفته فوضى، فيكون العقاب جاهزاً، فعندما تنتبه إلى سلوكيات طفلك السيئة أكثر من انتباهك إلى السلوكيات الحسنة، فإنك بذلك تدرب الطفل على السعي لنيل العقاب كشكل من أشكال لفت النظر إليه، بدلاً من السعي لنيل الثواب الذي لا يلفت نظرك واهتمامك، فكلما نال طفلك انتباهاً إيجابياً قل سعيه نحو نيل العقاب بالسلوك السيئ، وبالتالي يجب اعتماد الثناء على الطفل وأن تكون عادة يومية، فبالثناء نستخرج أقصى ما يمكن من سلوكيات الطفل الجيدة، فينمو إحساسه بالأمان والتقبل والثقة بالنفس، ويتحسن التواصل بين أعضاء الأسرة، وأن تثني على سلوك الطفل وليس الطفل نفسه، فتقول: "غرفتك المرتبة رائعة " وليس "أنت طفل رائع غرفتك مرتبة"؟


التغافل سقاية الثقة والحب
وعن علاقة التغافل بتنمية الحب والثقة تضيف المستشارة التربوية رضوى البدوي قائلة : "هذا الأسلوب التربوي قائم على تغافل السلوك السيئ إلى أن يختفي، والتركيز على السلوك الحسن البديل ودعمه وتعزيزه حتى يثبت عند الطفل ويصبح عادة.

فمثلا أم لديها طفل يمسح أنفه بملابسه، تتغافل عن السلوك اللحظي، ولا تقول لا تفعل كذا، بل تقول عندما تصاب بالأنفلونزا ذكرني أن أشتري لك مناديل صغيرة تحتفظ بها في جيبك، فكثرة طلب عدم القيام بسلوك معين هو للأسف تحفيز لمخ الطفل على القيام به فعلياً، لذلك فعندما يتصرف الطفل تصرفاً سيئاً، تلفت الأم النظر بالتصرف الصحيح المطلوب بديلاً عما يفعله.


والتربية بالتغافل ليست أسلوباً حديثاً كما يعتقد بعضهم، فهو أسلوب تربوي متأصل منذ القدم وهو يقوم على فكرة تحسين سلوك الطفل من خلال ذكر السلوك الحسن، والتغافل عن السلوك السيئ الذي يقوم به الطفل، فعندما قيل: "يا غلام سمّ بالله وكل بيمينك وكل مما يليك" فهذا توضيح بسيط للسلوك الحسن المرغوب، وتغافل عن السلوك السيئ الذي قام به هذا الغلام فلم
نعرف حتى كيف كان هذا الغلام يأكل، فلم تذكر أي فعل "نهي" إنما فعل أمر إيجابي في ثلاث جمل بسيطة واضحة تشرح آداب الطعام.

وتلاحظ الكثير من الأمهات أن السن الصغير في حدود الأربع سنوات أو حتى أقل قد يصر على السلوك السيئ، بل ويتعمد أن يأتي أمام والدته ويقوم به، وفي هذا الموقف يجب أن تسأل الأم نفسها لماذا طفلي مصر أن يحضر كوب الماء ويأتي أمامي ويسكبه على الأرض، بل وتسرع الأم لأن تقول ابني عنيد، وهذا خطأ فالطفل استخدم عقله الصغير حتى يقول لوالدته أنا هنا، سألفت نظرك لأنك لا تهتمين بي، فهو بحاجة لأن تلعب معه، فهذا إنذار لها بأن الطفل ينقصه احتياج معين، وهنا فالأم تتغافل عن التصرف السيئ، لكن لا تتجاهل الطفل وتفكر فيما يحتاجه وغالباً ما يكون الحاجة إلى اللعب.

وأثبتت الدراسات التربوية أن ثلثي التربية الفعالة تكون في التغافل، لكن هناك سلوكيات لا نتغافل عنها كالسلوكيات التي تتعلق بأمن الطفل كاللعب بالكبريت أو اللعب في وسط الطريق، وكل سلوك يخالف القوانين كالمخدرات والسرقة، وكل شيء محرم ديناً.

وخلال التربية بالتغافل يجب أن يعتمد الوالدان على تصديق الطفل حتى يغرسوا فيه الثقة، فعندما يقول لك الطفل لقد أنهيت طعامي كله، فلا تطلب منه الأم أن يحلف، حتى لو كانت تعلم أنه لم ينتهِ، بل تقول له إنها تثق فيه وتصدقه، وسوف يسعى أن يكون محل هذه الثقة فيما بعد، أو أن يكون المراهق قد ترك المدرسة وذهب للعب الكرة مع الأصدقاء، فيسأله الأب كيف كان يومك بالمدرسة، فيقول كان رائعاً فيقول له الأب بالتوفيق يا بني، أنا أثق بك بعدها سوف يلتزم المراهق بهذه الثقة ويعاتب نفسه ويؤنبه ضميره فيلتزم بالسلوك الحسن ويستحي من خيانة ثقة والديه.

المساهمون