ضحية العرب المركزية

ضحية العرب المركزية

25 يونيو 2017
+ الخط -
لم تكن فلسطين يوماً قضية العرب المركزية. كان هذا الشعار كذبة مركزية في تثبيت شرعية أنظمة القتل والقمع ما بعد نهاية حقبة الاستعمار بشعارات من نوع "لا صوت يعلو فوق صوت البندقية". فلسطين كانت ولا تزال أقرب أن تكون ضحية العرب المركزية لا قضيتهم.

طبعاً كانت بالفعل القضية المركزية لشعوب عربية من المشرق إلى أقاصي المغرب، أيام كان يزحف مقاتلون عرب فرادى أو مجموعات، حفاة من بلدانهم للوصول إلى أرض فلسطين على وقع ما كان يصلهم من فُتات أخبار التهجير والقتل والحرق، لكنها لم تكن يوماً مركزية في أجندات الأنظمة العربية القريبة من حدودها والبعيدة.

لم يحصل يوماً أن ترجمت أي فكرة قومية في المنطقة العربية، التزامها المبدئي بأولوية فلسطين وحمايتها فاسترجاعها فالمحافظة على ما تبقى منها. لا بل على العكس ربما، فقد استُخدمت "القضية" مع أل التعريف مثلما كان يُرمز إلى فلسطين، حطباُ لإدامة نار الحروب الخارجية للأنظمة العربية، ولتغذية حروب حقدها على شعوبها. شكلت "القضية" ورقة سياسية إستراتيجية من دون كلفة.

فالحروب التي شاركت فيها أنظمة عربية ضد إسرائيل كانت حاجة ذاتية لهذه الأنظمة لتجديد مشروعيتها ولتجديد ترسانتها وللإيغال في المزيد من عسكرة مجتمعاتها وقمعها وإشغالها عن حرياتها المؤجلة أبداً. شكلت فلسطين كنزاً استراتيجياً عند أنظمة العرب، لمجرد ذكر اسمها في كل بيان ومؤتمر قومي أو قطري أو خلاصات نقاشات لجان مركزية. كان يكفي أن "تضع فلسطين في فمك لتحكم لبنان" كما قال حافظ الأسد لبيار الجميّل في 1977، ولتقبض على السلطة في الأردن والعراق ومصر... مثلما حصل من دون أن يتجرأ زعيم عربي وقح على المجاهرة بالمعادلة السحرية كما أفصح حافظ الأسد. وكي لا يكون التوصيف للمأساة الفلسطينية في ظل الحروب العربية ــ العربية، موحياً بشوفينيات تتصور نفسها دوماً ضحية لأن الشر لا يمكن أن يسكن في رحابها، على طريقة توصيف اللبناني غسان تويني للحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) كـ"حروب الآخرين على أرضنا"، وجبت ملاحظة كيف أنه في كل استغلال لحكومات عربية للقضية الفلسطينية، بهدف تثبيت شرعياتها أمام شعبها وأمام الخارج، كان هناك عنصر مشترك اسمه طرف فلسطيني وازن مستعد لا بل متطوع لتأدية دور الضحية والجلاد في آن معاً، كرمى لعيون القضية.

لقد أوغلت الفصائل الفلسطينية، من داخل منظمة تحرير فلسطين أو من خارجها، خلال بلورة تصوراتها الذاتية لوطنيتها، في تجاوز حدودها الجغرافية والسياسية لتشكل جزءاً من أمراض المجتمعات المجاورة وفساد حكامها، بذريعة جاهزة يصعب التهرب من مناقشتها: إلى أين نذهب؟ العدو من أمامنا والبحر من ورائنا، فإلى أين المفرّ؟ وكأنها كانت تقول يمكننا أن نتلقى تمويلاً وتسليحاً من هذه الدولة العربية أو تلك، وأن نعطيها مشروعية فلسطينية، وأن نشارك في الحروب الأهلية لهذا النظام أو ذاك، إما لضمان استمرار الحصول على الإقامة والتسهيلات النضالية المزعومة، أو أملاً بأن تتغير الظروف يوماً ونتمكن من البقاء على قيد الحياة سياسياً للانتقال إلى منفى بظروف أفضل. لكن في معظم منافيها، استساغت "نخب" فلسطينية سياسية وعسكرية، التشبّه بالأنظمة "المضيفة"، فمارست سلوكياتها وتحولت الفصائل إلى أنظمةً عربية مصغرة في مخيماتها أو في صفوفها الحزبية. ولما اضطرت فصائل فلسطينية إلى الانحياز لأحد معسكرات حروب العرب ــ العربية والأهلية، غالباً ما كان ينتهي بها الحال ضحية يغسل الجميع أيديهم منها: حرب طرابلس اللبنانية مثالاً، وقرار تأييد غزو صدام للكويت وما نتج عنه من كارثة مكتملة الأوصاف نموذجاً ثانياً، وتحوُّل فئة فلسطينية من سكان مخيمات سورية إلى جزارين في صفوف وحوش بشار الأسد حالة ثالثة.

صدق من قال يوماً إنه "يجب إسقاط النظام السوري لكي تتحرر فلسطين"، أو على الأقل ليبقى هناك أمل بأن تتحرر فلسطين يوماً ما، ولو مجرد أمل.