محمد زيدان: استنهاض المقاومة من تحت ركام الحربين

محمد زيدان: استنهاض المقاومة من تحت ركام الحربين

21 مايو 2017
النكسة كان لها تأثير كبير على فلسطينيي 48(العربي الجديد)
+ الخط -

عمره كاد يكون من عمر النكبة، فهو يكبرها بعامين لكنه وجد نفسه غارقا في بحر إسقاطاتها في مرحلة مبكرة من حياته.

الرئيس السابق للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني، محمد زيدان، هو أحد من عاشوا معظم المراحل الصعبة التي مر فيها أهالي الداخل منذ النكبة في العام 1948 وحتى اليوم. بعد 69 عاماً على نكبة الشعب الفلسطيني، عاد ليقيّم الأمور، لا سيما أنه من بين القيادات التي ساهمت في اتخاذ قرارات مصيرية في الداخل، وكان من صناع يوم الأرض الخالد في مارس/ آذار 1976، وأحد مؤسسي لجنة الدفاع عن الأراضي ولجنة المتابعة في مرحلة لاحقة. 

يتحدث زيدان عن النكبة والنكسة وما بينهما، وما بعدهما، وتأثير كل ذلك على فلسطينيي الداخل. عن الخوف والأمل، والاعتماد على الذات في استنهاض الوعي والمقاومة بعد أن خذلتهم الدول العربية.

"أنا من جيل عاش مراحل كثيرة من الخوف والصدمات الكبيرة التي أحاطت بفلسطينيي الداخل في مراحل مختلفة. كبرت مع الصعوبات. ورثنا هذه الحالة كرهاً، ونعيشها قسراً، فمباشرة بعد النكبة بتنا شعباً بلا قيادة كفلسطينيين وخاصة في الداخل"، يقول محمد زيدان في حديث لـ"العربي الجديد". ويضيف: "في فترة الحكم العسكري الذي امتد من العام 1948- 1966، كان هناك الكثير من المخاتير والشخصيات المتواطئة الذين اعتمدت عليهم المؤسسة الإسرائيلية في تنفيذ مخططاتها التي تستهدف الفلسطينيين الذين بقوا على أرضهم. وفي ظل غياب قيادات واعية، كانت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ. على مر سنوات طويلة لم نكن قد أدركنا بعد أنه علينا الاتكال على أنفسنا، بعد أن تخلى الجميع عنا وسمحوا بتفرد الاحتلال بنا. ومع هذا بقينا على أمل بتغيّر أوضاعنا كشريحة منسية، وكان الأمل يُغتال في كل مرة من جديد. كانت أحداث المنطقة تؤثر فينا، على نفسياتنا ومعنوياتنا. نتائج العدوان الثلاثي على مصر شكّلت صدمة كبيرة لنا، وتغلغل الإحباط بعد الهزيمة في نفوسنا ومعنوياتنا، ومع هذا صمدنا".

كابوس المؤسسة الإسرائيلية وكابوس العالم العربي

ويوضح زيدان أنه "رغم السياسات المتعاقبة للاحتلال ومصادرة الأراضي واحتلال الوعي، صمدنا في ظل نكران العالم العربي لنا، فقد عشنا في كابوسين، كابوس المؤسسة الإسرائيلية التي تستهدفنا يوميا، وكابوس العالم العربي الذي اعتبرنا جزءاً من الحركة الصهيونية وقام بمقاطعتنا. للأسف في مطلع الخمسينيات أصدرت الجامعة العربية قراراً بمقاطعة الجماهير العربية في الداخل باعتبارهم جزءاً من الحركة الصهيونية! هذا كان أمراً مخيفاً، بل مرعباً ومؤسفاً جداً، وزاد من عزلتنا. كنا إذا خرجنا إلى مؤتمرات في الخارج، يرفض ممثلو الدول العربية التحدث إلينا. وجدنا أنفسنا كالغريق في وسط البحر لوحدنا. تعلقنا بالعالم العربي وتخلى عنا، ولكن هذا دفعنا للاعتماد لاحقا على أنفسنا لبلورة هويتنا الوطنية والقومية وتاريخنا بقوانا الذاتية بناء على الظروف التي نعيشها. أما الاتصالات مع باقي شرائح شعبنا الفلسطيني وقياداته في الخارج فكانت غير رسمية وتحت الظل، في ظل محاصرتنا وعزلنا عن كل ما يحيط بنا، بل حتى عزل البلدات العربية في الداخل عن بعضها البعض ومنع التواصل بينها وتقسيمها إلى مناطق في ظل الحكم العسكري".

نكسة 67 وبداية التغيير

لكل حدث في المنطقة العربية كان هنالك تأثير كبير ومباشر على الحالة المعنوية لفلسطينيي الداخل. يقول زيدان في هذا السياق: "في العام 1967 كنت أعمل مدرساً في إحدى المدارس. كان لا يزال لدينا بعض الأمل بأن العالم العربي سيصحو ويتحرك ويعيد النظر في علاقته معنا. لكن نكسة 1967 شكلت صدمة ربما كانت الأعنف على الجماهير العربية في الداخل، بعد النكبة، لأن الآمال الكبيرة التي كنا نعقدها على العالم العربي والتوقعات الكبيرة تبخرت. اكتشفنا أن الإعلام العربي كان لا يمت للواقع بصلة عند حديثه عن الجيوش. كنا نمني النفس بأن الدول العربية بجيوشها وأموالها وقياداتها، ستنتصر وتنصرنا، لكن كل شيء تبخر.


كان لذلك تأثير كبير على سلوكنا (فرانس برس)

















كان لذلك تأثير كبير على حياتنا اليومية وسلوكنا السياسي. قدرتنا على المقاومة اهتزت من الداخل أكثر. ونتيجة الانتكاسات المتتالية، رأينا لاحقا أنه آن الأوان لكي نعتمد على أنفسنا وليس على الجيوش العربية، ولا حتى على شعبنا الفلسطيني في الأماكن الأخرى، فأحد لن يستطيع دعمنا. قدنا مرحلة جديدة بالاعتماد على أنفسنا، لدعم صمودنا في وجه الضغوط والممارسات الإسرائيلية، ووقف نزيف التجهيل".

قيادات شابة وواعية

"في بداية السبعينيات بدأت الأمور تتغير بعض الشيء، وخاصة في العام 1973"، يقول زيدان، مستدركاً: "كانت المؤسسة الإسرائيلية قبل ذلك تعتمد على المخاتير وشخصيات غير ناضجة سياسيا، ومنها متعاونة مع المؤسسة، للتعامل مع الجماهير العربية في الداخل، بل منهم من تآمروا وساهموا في صفقات نهب الأراضي العربية".

ويتابع "في العام 1973، أفرزت الانتخابات المحلية قيادة سياسية واعية، لديها قراءة صحيحة للتاريخ وللواقع الموجود. وكانت النتيجة بعد أربع سنوات إعلان يوم الأرض في آذار/ مارس 1976، كمرحلة مفصلية. اتخذ القرار من لجنة الدفاع عن الأراضي، التي كنت أحد مؤسسيها وأعضائها. كان هناك نشاط للحزب الشيوعي وقيادات أخرى تعمل تحت غطاء الحزب الشيوعي، رغم أنهم ليسوا من الشيوعيين، ولكن لحاجتهم لمظلة للعمل، ومنهم رؤساء سلطات محلية. ومن خلال هذا العمل الجماعي تشكلت لجنة الدفاع عن الأراضي وكان قرارنا بإعلان يوم الأرض حاسما ومفصليا في تاريخ جماهيرنا.

كنت في ذلك الوقت أول رئيس مجلس محلي منتخب في قريتي كفر مندا وكنت الأصغر في البلاد بهذا المنصب، وكان عمري حينها 27 عاما في 1973. في هذه المرحلة بدأ يتشكل وعينا الوطني كأقلية فلسطينية صامدة على أرضها من جديد، وبدأت تبرز قيادات جديدة تتعامل مع الواقع بشكل صحيح".

فرق تسد

يتابع محمد زيدان، الرئيس السابق للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، استعراض بعض المحطات في تاريخ فلسطينيي 48: "كانت المؤسسة الإسرائيلية تتعمد التعامل مع الجماهير العربية كأفراد وليس كمجموعة، واتباع سياسة فرّق تسد، وفصل البلدان والمناطق عن بعضها لإضعافها أكثر. كانت تنهب الأرض دون أي رد فعل بسبب انعدام القيادة، وأيضا لوجود عملاء متواطئين لتنفيذ سياسات نهب الأراضي من عملاء السلطة.

فقدنا معظم الأراضي. في المدارس كانت المناهج توضع بطريقة خبيثة لأسرلة الجماهير العربية. تم تصوير يوم النكبة وكأنه يوم استقلال ووجدنا بيننا من يحتفلون فيه في ظل الجهل الكبير وحالة التخدير والعزلة. لكن كما ذكرت في العام 1976 كانت رؤية جديدة ومحطة نضالية هامة ومفصلية وبداية لاستنهاض الوعي من جديد".

عودة الحكم العسكري

في ظل مضي المؤسسة الإسرائيلية بسن القوانين العنصرية في السنوات الأخيرة يرى مراقبون أن الوضع عملياً هو عودة لفترة الحكم العسكري. ويرى زيدان أن "القوانين العنصرية لم تتوقف يوما، ولكن لم نكن نتمعن في هذه القوانين ونقاومها على مر سنوات خلت. اليوم بطبيعة الحال مع تنامي الوعي أصبحت الإمكانية أكبر لفضح القوانين العنصرية من خلال أدوات كثيرة لم نكن نملكها في السابق، من إعلام ومؤتمرات ومهرجانات وانفتاح على الآخرين وجرأة كبيرة. هذه الأمور هي إنجازات بحد ذاتها، حين ننظر إلى ما مر به فلسطينيو الداخل من محاولات لعزلهم عن واقعهم وهويتهم وفي ظل المخططات التي استهدفتهم واستهدفت وعيهم".

الأحزاب والحركات السياسية


بعد هيمنة الحزب الشيوعي لسنوات، ظهرت أحزاب وحركات عربية أنهت تلك الهيمنة. يقول زيدان إنه "مع ازدياد الوعي الوطني أصبحت هناك حاجة للتعددية، خاصة كما قلت إنه في السبعينيات كان قياديون لهم أفكار تختلف عن الشيوعية ولكنهم اضطروا للعمل في إطار الحزب الشيوعي لأنه لم يكن أي بديل يمكن العمل تحت مظلته في الداخل. وبالتالي ظهرت في مرحلة لاحقة الحركة التقدمية، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وفي مرحلة متأخرة أكثر ظهرت عدة أحزاب وصولا للحركة الإسلامية والتجمع الوطني الديمقراطي، وكان لهذين الجسمين تأثير كبير على مجتمعنا ولعبا دورا في زيادة الوعي وإتاحة التعددية في مجتمعنا الفلسطيني في أراضي 48، وكذلك في تجديد الأدوات النضالية وطرح أفكار متقدمة ومتنورة".

فشل في بناء لجنة المتابعة كهيئة مؤسسات وطنية

رغم أن لجنة المتابعة العليا لفلسطينيي الداخل تعتبر الهيئة الوطنية الأعلى الجامعة للأحزاب والحركات السياسية من مختلف المشارب الفكرية، إلا أن محاولات بنائها من جديد، كهيئة مؤسسات وطنية لم تنجح بعد.

ويشعر محمد زيدان الذي شغل رئاستها في أكثر من فترة، بغصة تجاه هذا الأمر. ويقول في هذا السياق متحدثا عن إقامتها والمراحل التي مرت بها: "ما أثر في قضية إضراب يوم الأرض هو الجمهور وتحرك لجنة الدفاع عن الأرض. ومنذ السبعينيات وجدنا ضرورة لتشكيل هيئات وطنية، خاصة بعد أن تلاشت لجنة الدفاع عن الأرض بسبب خلافات سياسية بين مركباتها. رأينا حاجة لعمل سياسي منظم. وتشكلت لاحقا لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية، وكنت أنا ممن ساهموا بشكل أساسي في تأسيسها، وتوالى عليها الرؤساء وتقلدت رئاستها في مرحلة معينة.

وصلنا لقناعة بأنه لا بد من هيئة تعالج القضايا السياسية والكبيرة، التي تخص جماهيرنا عامة وليس على مستوى محلي في البلدات فقط. وكان لا بد من شمل القيادات السياسية. أعضاء الكنيست العرب كانوا يكادون لا يعرفون بعضهم، فدعوناهم إلى كفر مندا واجتمعنا معهم، وتعرفوا إلى بعضهم البعض، بحضور أول رئيس للجنة الراحل إبراهيم نمر حسين، واقترحنا إقامة جسم سياسي، وأن نطلق عليه اسم لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، وذلك في بداية الثمانينيات. وأصبحت الهيئة السياسية العليا التي تضم رؤساء السلطات المحلية والقيادات السياسية وقيادات الأحزاب وأعضاء الكنيست العرب.

كان للجنة دور مهم في الكثير من القضايا والنشاطات منذ إقامتها إلى اليوم. الأحزاب حتى اليوم لها أفكار مختلفة وخلافات في أساليب معالجة قضايا جوهرية، وهذا يعيق عمل لجنة المتابعة، رغم أننا اتفقنا منذ البداية على التعامل مع القضايا المتفق عليها وليس القضايا الخلافية.

حاولت من خلال رئاستي في أكثر من فترة، وخاصة في السنوات الأخيرة، العمل على مأسسة هذه اللجنة، لتكون لها أذرع ومؤسسات، وقطعنا شوطا في ذلك، ونظريا وضعنا مخططا زاخرا بالأفكار، ولكن الخلافات ما زالت تعيق عمل لجنة المتابعة والنهوض بها لتكون أكثر تأثيرا، رغم أن مخططات إسرائيلية كثيرة تستهدفنا وتبقي الجماهير العربية على المحك وأمام خيارات صعبة. هناك من لا يريد للجنة المتابعة أن تكون أكثر من مجرد لجنة تنسيق مواقف، في حين أن هنالك أحزاب أخرى تريدها جسماً قوياً قادراً على التعامل مع التطورات. لا بد أن تكون المتابعة على قدر التحديات"، اختتم محمد زيدان حديثه.

المساهمون