من وهم إلى آخر

من وهم إلى آخر

19 مارس 2017
+ الخط -
مبكراً، أدركت قوى الثورة الفلسطينية المسلحة أن تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، لا يعني "رمي اليهود في البحر"، بحسب ما نسب إلى الناصرية، أو ربما إلى أحمد سعيد فقط. فحتى لو تمكنت قوى الثورة الفلسطينية، الطالعة من رحم الهزيمة العربية في حزيران/ يونيو 1967، من تحرير فلسطين فإن وجود ملايين "الإسرائيليين"، على أرضها، سيطرح سؤالا جوهريا حول شكل الدولة التي سيشكلها المحررون. كان على قوى الثورة أن تفكر بسؤال ما بعد التحرير، الذي رغم صعوبته الخارقة بدا ممكناً في البرامج والواقع الناشئ من خلخلة النظام العربي الذي لم يحرر ولم يترك أصحاب القضية، ومن معهم، يحررون.

أي شكل للدولة في فلسطين المحررة؟
كان الجواب: الدولة الديمقراطية. أي الدولة التي تكون لكل مواطنيها بصرف النظر عن دينهم وعرقهم. كانت هناك معارضة لهذه الفكرة من قوى فلسطينية صغيرة (أو من امتدادات عربية في القضية الفلسطينية خصوصا من نظامي البعث العراق وسورية). لكن هذه المعارضة كانت هامشية إلى درجة أنها لم تستطع أن تشكل قوة معارضة لتبني مشروع الدولة الديمقراطية من المجلس الوطني الفلسطيني في دورته لعام 1971. غير أن هذا المشروع/الفكرة لم يطل به المقام، في البرنامج، إذ سرعان ما تقزّم حلم التحرير من النهر إلى البحر بعد حرب "تحريرية"، هي حرب تشرين / أكتوبر 73، التي غرست أول بذرة لوهم التسوية. تبنت منظمة التحرير الفلسطينية، إثر هذه الحرب "التحريكية"، برنامجاً مرحلياً يقوم على قبول دولة "مرحلية" في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين عاصمتها القدس..
ومن تقزّم إلى آخر، يعكس ضمور قوى الثورة الفلسطينية وتغير الوضع السياسي المحيط بفلسطين، بل وفي العالم، وصلنا إلى حفرة أوسلو التي وقعت فيها م.ت.ف ولم تنهض منها حتى اليوم، بصرف النظر عن رفض هذه الاتفاقية الكارثية لفظيا من بعض الفصائل والقوى الشعبية.

مثل وهم التسوية في أعقاب حرب أكتوبر، و"حلم" الدولة الديمقراطية، كان وهم حل الدولتين. والخطأ ليس في الأفكار، وإنما في المجهود المرصود لها. لا يكفي أن تطرح فكرة، مهما كانت بسيطة، مهما كانت واقعية، وتتركها تحقق نفسها بنفسها. لا بدّ من جهد يفوقها عزماً لتصبح حقيقة. فهل بذلت قوى الثورة الفلسطينية ما يكفي من الجهد لتحقيق البرامج التي تبنتها بما فيها أوسلو؟ الواقع يقول لنا: كلا. خصوصا في أوسلو التي كان يمكن أن تكون أقل كارثية لو لم تشطب السلطة عنصر التحرك الشعبي من ذهنها. كانت تظن أن التنازلات التاريخية التي قدمتها لـ "تشجيع" اسرائيل على السلام كافية، وأن "الرباعية" كافية، وأن إدانة عمليات حماس كافية، وأن الالتصاق بقوى "الاعتدال" العربي كاف. والحال أنها لم تكن كافية.

مات حل الدولتين على الأرض. قضت عليه أسنان بلدوزر الاستيطان. والآن: لا دولة ديمقراطية، ولا ثنائية القومية، ولا دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. كل ما لدينا هو حكم ذاتي محدود. سموه دولة. سموا الجالس في المقاطعة رئيساً. لا يغير في الواقع شيئاً. هذا حكم ذاتي محدود.

طيب، ما الحل؟ الكلام سهل. العمل هو الصعب. هناك نقطة بداية، وهي التي نعود إليها كلما ضاقت السبل: الفلسطينيون أنفسهم الذين أخرجوا من المعادلة وأجلسوا في البيوت، أو ربطوا بالوظائف والقروض المسيرة. كيف يمكن تحسين حتى هذا الوضع البائس من دون ضغط شعبي، من دون تحرك في الشارع، من دون مقاطعة اقتصادية لإسرائيل؟ كيف يمكن أن نحرر أرضنا ونحن نغذي اقتصاد العدو، ونجعل احتلاله أقرب إلى النزهة؟