لأن المقاومة الديمغرافية لا تكفي

لأن المقاومة الديمغرافية لا تكفي

19 فبراير 2017
+ الخط -
تبدو أدوات النضال لدى الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، محدودة اليوم أكثر من أي وقت مضى. ضيق الخيارات وُلد مع وجودهم كأقلية قومية داخل دولة استعمارية تأسست على أرضهم وسرقتها، وقررت إعطاءهم جنسية تحمل في طياتها صكوك مواطنة غير متساوية في الحقوق، قانونياً أو ممارسةً، بين يهود وغير يهود، وحتى بين يهود شرقيين وغربيين، وآخرين يهود "باب ثانٍ" وثالث عندما تكون بشرتهم سمراء من الفلاشا مثلاً. عبثية المشهد الممزوجة بمنسوب مرتفع من المأساوية، تظهر عندما يكون أحياناً كثيرة التواصل بين فلسطينيي 48 مع أشقائهم في الطرف الآخر من الفسيفساء المحتلة، الضفة وغزة ومعظم أنحاء الشتات العربي خصوصاً، تهمةً عقوبتها قصوى. أو عندما يُطلَب منهم، بكل غرور لا بل تفاهة، أن يقاطعوا إسرائيل ومؤسساتها وبضائعها ولغتها، أي أن ينتحروا جماعياً بكلام آخر، ليقدموا للمؤسسة الإسرائيلية فائدة لطالما سعت إلى جنيها من خلال السعي لأن تكون إسرائيل دولة لليهود حصراً ونهائياً.

لكن بين الانخراط من منطلق فلسطيني في مؤسسات الدولة القائمة على الاحتلال لتحصيل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتحسين شروط حياته اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً بصفته صاحب الأرض، من جهة، ووقوع بعض الفلسطينيين بغرام المحتلّ، بذريعة الانخراط في الشأن العام كشكل من حفاظ الفلسطينيين على وجودهم الوطني، من جهة ثانية، فارق كبير، يبدأ بانتهازية وعلامات مرضيّة تتصل بمتلازمة استوكهولم وكره الذات، وينتهي بما قد يصل إلى حدّ خيانة أهل البلد والأخ والشقيق والوالدة، على ما هو حال بعض الليكوديين مثلاً من أصحاب الجذور العربية الفلسطينية غير اليهودية، أو حتى بعض الأطياف من اليسار الإسرائيلي. 

ولأن أدوات النضال ضيقة إلى هذا الحدّ، ظلّ ما يحلو للبعض تسميته "المقاومة الديمغرافية" أو النضال لتغيير ميزان التركيبة السكانية في إسرائيل، لتصبح لمصلحة الفلسطينيين البالغ عديدهم اليوم ما يناهز العشرين في المائة، الأسلوب الأسهل والأكثر "بدائية" وبديهية، بما أن الحديث هنا يدور عن فعل لا يتطلب إلا تعويلاً على الطور البيولوجي للتكاثر السكاني.
هكذا، ينبع الاستسهال من مقولة إن الفلسطينيين داخل إسرائيل سيصبحون بعد عقد، هم الغالبية السكانية، بالتالي فإنهم سيغيرون من السياسات العامة العنصرية للدولة، لتصبح فعلاً دولة سلام لا بلد أبارتهايد، ولتوقف سياسة الاستيطان والتهويد والاحتلال، ولتكون دولة ديمقراطية فعلاً لا لليهود حصراً. استسهال تنقضه على كل حال فكرة نشوء إسرائيل نفسها، عندما لم يكن اليهود في فلسطين يتعدون العشرة في المائة ربما من أصحاب الأرض، وتمكنوا من حكم الغالبية لا بل من قتلهم وطردهم وتحويلهم أقلية متقطعة الأوصال يتسارع تبخر أراضيهم في بحر الكيان المحتل. أما القول إن زمن النكبة وما قبلها من تآمر عالمي يختصر بوعد بلفور المشؤوم، هو حصراً ما أنشأ إسرائيل، فما هو إلا هروب إضافي إلى الأمام ورفض للمعرفة الحقيقية والضرورية بالعدو بأدوات شغله وتفكيره لمحاربته بما يلزم من عدّة عمل. أصلاً، وفق منطق المؤامرة هذا، الذي يقول إن اصطفاف الغرب مع الحركة الصهيونية هو الذي غلب الأكثرية الفلسطينية زمن النكبة، فإن التكالب العالمي اليوم إلى جانب إسرائيل، في ظل وجود فريق صهيوني كذلك المتحصن في أروقة القرار الأميركي حالياً، يحمل بُعداً تآمرياً أكبر ربما مما كان يحتضنه وعد بلفور والرغبة العالمية بالتخلص من يهود أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين. أي أنّ الغالبية الديمغرافية الفلسطينية المأمولة داخل الخط الأخضر، حتى لو تحققت، ليس مؤكداً بتاتاً أن تكون كافية لتغيير المنطق الصهيوني العنصري التي تقوم عليه دولة إسرائيل في قوانينها ونظامها السياسي ومؤسساتها الحاكمة على أساس اضطهاد الفلسطينيين أو إبقائهم في مرتبة اجتماعية سياسية اقتصادية دنيا بأحسن الأحوال.

أكثر من ذلك، فإن الاستسهال والتعويل الحصري على "المقاومة الديمغرافية" المفهومة شرط ألا تكون مقصودة، يؤدي في الكثير من الحالات إلى نتائج سلبية ضارّة بالأشكال الأخرى للمقاومة، تلك التي تتطلب جهداً عقلياً ربما يعرقله الوضع الاقتصادي الاجتماعي البائس الذي يتسبب به في الكثير من الأحيان ارتفاع نسبة الولادات، وخصوصاً أنّ نسب الرفاه والعيش الكريم، هي الأدنى في إسرائيل عند الفلسطينيين.

المساهمون