ماذا يعني القرار الأميركي؟

ماذا يعني القرار الأميركي؟

24 ديسمبر 2017
+ الخط -
شكل اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل وتوجيهه لوزارة الخارجية بالعمل فورا على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، انعطافا خطيرًا في الموقف الأميركي من عملية التسوية السلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتصدعًا في مكانة أميركا كراعي أساسي لهذه التسوية، وخروجًا عن المسار المتبع من الرؤساء الأميركيين الذين دأبوا على إرجاء تنفيذ قانون الكونغرس الأميركي الصادر عام 1995م والذي ينص على وجوب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ويطالب بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، وذلك مراعاة لمصالح الأمن القومي الأميركي وحفاظًا على إظهار حيادية ونزاهة الولايات المتحدة في مفاوضات السلام في الشرق الأوسط والتزامًا بالقرارات الدولية المنظمة لوضع القدس.
خطورة القرار لا تكمن في خروجه عن المألوف أميركيًا بل في تبعات ذلك الخروج على كل ما يتعلق بالحق الفلسطيني السياسي والتاريخي والديني في مدينة القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة، وما يترتب على القرار من إضفاء شرعية قانونية على الإجراءات التشريعية والدستورية المخالفة للقانون الدولي والتغيرات التي نفذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالقوة وفرضتها عبر سياسة الأمر الواقع في مدينة القدس منذ احتلالها كاملة في العام 1967م من تهجير للسكان الفلسطينيين من ممتلكاتهم بغير وجه حق ومصادرة الأراضي الفلسطينية بذرائع شتى غير إنسانية ولا أخلاقية وإقامة مشاريع استيطانية عليها وتشيد جدار الفصل العنصري.
اعتراف الرئيس ترامب يعفي إسرائيل من الاستحقاقات والالتزامات المطلوبة منها حسب اتفاقيات السلام العربية، وخاصة اتفاقية أوسلو، ويمس معاهدة وادي عربة الموقعة بينها وبين الأردن، والتي تشمل وصاية الأردن على المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين.
إضافة إلى أن القرار يجعل من الإدارة الأميركية شريكة لإسرائيل في تجنيها على الحقوق الفلسطينية والعربية، ويدعم التطرف والإرهاب الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، ويعزز مزاعم إسرائيل وادعائها بأنها وحدها صاحبة الحق في مدينة القدس بشطريها الغربي والشرقي، وهذا يضع المقدسات الإسلامية والمسيحية تحت سطوة وسيطرة دولة إسرائيل ويمنحها أحقية التصرف في المدينة كيفما تشاء، وأن تجري عليها بما فيها من مقدسات دينية إسلامية ومسيحية ما ترغب وتضيف عليها ما تريد، من دون أن تخشى التعرض للمساءلة القانونية في المحافل الدولية أو أن يشكل ذلك خطرًا على مكانتها العالمية.
لم يعد من الممكن فلسطينيًا الاطمئنان لنوايا الإدارة الأميركية بعد أن سقطت نزاهتها وأظهرت انحيازها التام للطرف الإسرائيلي، أو التعامل معها على أنها الوسيط الحصري والرئيس لمسيرة التسوية السلمية بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة إسرائيل، بعد إقدامها على هذا الاعتراف الذي منح إسرائيل مدينة القدس بكامل جغرافيتها ومعالمها عاصمة موحدة وأبدية لدولة إسرائيل، مع ما يعنيه ذلك من تغير للصفة السياسية والقانونية للقدس ويشكل خطوة أساسية في طريق يهودية الدولة التي تتطلع إليه إسرائيل، ومحاولة لتفكيك الثوابت الفلسطينية التي بقيت مصانة على مر الزمن ولم يتجرأ أحد، كائن من كان، على العبث بها أو التنازل عنها أو التفريط بها، وإخراجًا لملف القدس من أي عملية تفاوضية مما يؤدي بشكل صريح إلى تدمير العملية السلمية والإجهاز عليها وإنهاء مبررات التفاوض، ويسقط بذلك حل الدولتين الذي تفاوضت منظمة التحرير منذ ما يربو عن 20 عامًا لأجل تحقيقه والظفر به، فكيف للدولة الفلسطينية المنشودة أن تقام من دون أن تكون القدس الشرقية عاصمة لها، ناهيك عما يمثله القرار من سطو أخلاقي شنيع استهدف التاريخ والحق العربي والإسلامي وأنكر الشواهد والآثار والعمران الإنساني الممتد فيها منذ فجر التاريخ.
على ما يبدو أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب جاء تلبية لرغبة جامحة عنده في تدشين
مسار آخر للتسوية السلمية بأبجديات جديدة تنهي خيار التسوية السلمية بشكلها الحالي وتراعي المصالح الإسرائيلية وتدعمها، من دون مراعاة للحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في المواثيق والأعراف الدولية، ذلك في الوقت الذي تحدثت فيه وسائل إعلامية عن اقتراح قدّمه وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان للرئيس الفلسطيني محمود عباس مضمونه أن تكون بلدة أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بدلاً من القدس، وهذا يمثل خيبة أمل لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويكشف مدى فظاعة خطئها حين تركت مجداف عملية التسوية والسلام مع إسرائيل بيد أميركا وتحت تصرفها وحدها، تميل به حسب أهوائها وتطلعاتها المرحلية، ولم تحتمِ بأطراف أخرى تضمن لها توازن الطرف الأميركي في التعامل مع القضايا الفلسطينية.
ولا يمكن بحال من الأحوال تجاهل الخطورة الكامنة في تجاوز الإدارة الأميركية بقيادة ترامب للقرارات الدولية الخاصة بمدينة القدس، ومن أهمها قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والقاضي بقيام دولتين يهودية وفلسطينية ومنح القدس وضعًا قانونيًا خاصًا تحت وصاية الأمم المتحدة، وتجاهل الالتزام بما جاء في اتفاقية أوسلو بخصوص تسوية قضية القدس في المرحلة النهائية من مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مما ينذر بارتكاب الإدارة الأميركية الحالية مخالفات لاحقة لقوانين وقرارات نصت عليها المواثيق والمعاهدات الدولية.
القرار الأميركي يضعنا أمام حقيقة ما هوت إليه الحالة العربية من ضعف وتهافت في مجاراة القوى المؤثرة دوليًا، وانعدام وجود رؤية سياسية عربية جامعة في ظل تغير موازين القوى العالمية، وإفلاس على جميع الصعد، فالمجتمعات العربية تئن تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية، وملاحقة الأجهزة الأمنية للعقول والمفكرين العرب والمطالبين بالإصلاح في الوقت الذي نشهد فيه تحولات جذرية في القيم العربية العليا وتراجع القومية العربية لصالح النعرات الطائفية والحزبية، وانحصار الهمّ العربي في تدبر لقمة العيش وتسيير أمور الحياة اليومية.
هذا القرار غير المسؤول يعتبر استفزازاً للكل الفلسطيني والعربي وللمتضامنين والمناصرين للحق الفلسطيني ومحاولة لمحو جدوى النضال الفلسطيني، ويمنح جماعات التطرف والفكر المتشدد في ظل الصراعات والحروب الدائرة في المنطقة العربية مبررات يمكن من خلالها استقطاب الشباب العربي للالتحاق بتلك الجماعات للتخلص من عقدة الذنب والتحلل من الذل والعار الناشئ من الشعور بأن مدينة القدس الشريف تسرق من بين يديه وتهود تحت تهديد القوة والجبروت الأميركية في ظل عجز الأنظمة العربية وانكسار إرادتها أمام الإرادة الأميركية وركضها في تطبيع علاقاتها مع الدولة الإسرائيلية.
(كاتب فلسطيني من غزة)

المساهمون