"دعيني أجرب"

"دعيني أجرب"

04 نوفمبر 2017
اعط لأطفالك مجالا للاعتماد على أنفسهم(Getty)
+ الخط -
"الوعي بالتربية يعد سلاحاً ذا حدين" كنت أسمع تلك الجملة تتردد بأشكال عدة في الدورات التدريبية التربوية التي اعتدت حضورها، وكنت أشكك في صحتها إذ كيف يكون وعي الشخص بالتربية سلاحا سلبيا على أبنائه! وكيف يكون حرصي على أن أتزود بالمعرفة التي تساعدني على تربية أطفالي ومراعاة احتياجاتهم ونفسياتهم سلاحا يؤذيهم؟ 

لم أصدق حتى عشت الواقع العملي والتجربة الحياتية بنفسي، وذلك منذ أسابيع، حينما صرخ طفلي بحدة موجها كلامه لي قائلا: "دعيني أجرب" بعد أن رفضت أن يشارك في رحلة مدرسية تبعد لمسافات طويلة عن بيتي، إذ كنت أخاف عليه من طول المسافة وأنه سيعود في وقت متأخر من الليل ولن يكون يقظا ولا مستعدا لليوم التالي المصادف ليوم تمرينه الرياضي الأسبوعي (هكذا اجتهدت وحسبتها بقلب وعقل الأم)، طالبني الصغير بأن أمنحه فرصة للتجربة ووعدني بأنه سيعود لينام فورا، قالها راجيا بائسا بعد أن وصلني إحساسه بالعجز وكأني قد حكمت عليه بالسجن.

راجعت نفسي وسمحت له بخوض التجربة على أن يفي بوعده بالاستيقاظ مبكرا لليوم التالي، وبالتجربة عاد طفلي من الرحلة سعيدا مفعما بالحيوية وقص علينا تجاربه اللطيفة في الرحلة، وبالرغم من إرهاقه الشديد استيقظ مبكرا وذهب لتمرينه الرياضي وكأن شيئا لم يكن، وكأنه برجائه في السماح له بالذهاب للرحلة أراد أن يوصل لي رسالة "الحياة مستمرة" ففكي قيدي وأطلقيني.

انتبهت وقتها فقط للعبارة الرنانة تلك وأدركت أن حرصي الشديد على مصالح طفلي كأم قد تمنعه من التجربة، والتجربة في حد ذاتها خبرة لا يستهان بها في نمو ونضج أطفالنا.

أدركت أن حرصي على مصالحه كأم سيحرمه من النضج، نعم هو النضج فإحاطة صغارنا بالتعليمات والتنبيهات والتحذيرات يحرمهم بالفعل من النضوج العقلي، ذاك النضوج الناتج عن سلسلة من التجارب الناجحة والفاشلة معا وعلى التوازي، والتي تعمل بلا شك على صقل شخصيته وتحديد ملامح ذاته، لحرصي سيحول طفلي لرجل آلي ينفذ التعليمات وفقط مثل آلة منزوعة المشاعر والرغبات.

فمثلا حرصنا على تجنبهم لرفقاء السوء بشكل خانق يحفز فضولهم للكشف عن سبب رفض الآباء لأي علاقة تجمعهم بهم، سيضطرون للتعامل معهم وينكرون أي صلة بينهم خوفا من إغضابنا أو خوفا من العقاب وبذلك نكون قد باعدنا الفجوة بيننا وفرضنا سيطرتنا عليهم لدرجة أن نختار لهم أقرانهم، في حين أننا لو زودناهم بحرية الاختيار على أن يتحملوا نتائج اختيارهم، وذكرناهم بالقيم والمبادئ التي سلحناهم بها سيختارون في كل مرة بشكل أقرب للصواب عن ذي قبل لأنه اختيار مبني على تجربة واقعية خاضها وعاشها بكل تفاصيلها بفرحها وألمها.

حرصنا على تنفيذ أبنائنا للتعليمات يحرمهم من التمييز بين الصحيح والخطأ، سيزرع في نفوسهم الخوف من المجهول من كل ما لم تسنح له الفرصة لاختباره، ستصيبهم بالتوتر والقلق وانعدام القدرة على مواجهة أي موقف حياتي والناتج سيكون شخصية هزيلة معقدة غير قادرة على التأثير والتأثر بغيرها.

التجربة هي نصف الحياة بما فيها من إيجابيات تؤكد على صحة القرار والاختيار والحق في الحياة، وبما تتضمنه من سلبيات تؤكد على تجاوز الخطأ وعدم تكراره مرة أخرى. في كلا الحالتين التجربة تعمل على تكوين شخصيات أطفالنا وتحدد ملامح حياتهم وتصقل شخصياتهم وتدفعهم لخوض العديد منها مستفيدين من كل تفاصيلها.

المساهمون