دور إسرائيل الوظيفي... واستراتيجية السيطرة الإمبريالية [2/2]

دور إسرائيل الوظيفي... واستراتيجية السيطرة الإمبريالية [2/2]

07 فبراير 2017
اليهود أداة بيد الإمبريالية وحروبها (محمود همص/فرانس برس)
+ الخط -

المشروع الإمبريالي

أشرت في القسم السابق إلى السبب الذي أوجد فكرة إقامة "دولة يهودية" في فلسطين، فالأمر لم يكن يتعلق بـ "حل إنساني" لوضع صعب يعيشه اليهود في أوروبا، هؤلاء الذين كانوا مادة المشروع في البدء، بل أتى بناءً على منظور استراتيجي حكم الرأسمالية الإنكليزية يقوم على السيطرة على الشرق العربي، وكان يحتاج إلى "مرتزقة" لبناء قاعدة عسكرية في فلسطين كحاجز يقسم الوطن العربي، ويهيمن على طرفيه. ولقد جرى تغليف هذه القاعدة العسكرية بـ "مجتمع مدني" لكي يأخذ شرعية أبعد مما يمكن أن تأخذه قاعدة عسكرية عادية، انطلاقاً من "حق" "شعب" في "العودة إلى أرضه"، وفي "شرعية" هذا الحق. بالتالي ينتقل النقاش من شرعية وجود عسكري على أرض الغير إلى "شرعية" وجود "شعب" على أرضه. وهذا ما يضمن بقاءً طويلاً، وربما أبدياً، لهذه القاعدة العسكرية وفق ما تعتقد. ومن ثم يضمن استمرار تفكك الوطن العربي، وبقاءه متخلفاً، وتابعاً. وكذلك يضمن مواجهة كل محاولة لنهوضه، من خلال الدور العسكري للدولة الجديدة، التي تصبح مهددة بكل محاولة لبناء الصناعة وتطوير القدرات العسكرية وتحديث المجتمع.

هذه المسائل التي تريد الرأسمالية منعها، بالضبط لأنها تعني "الانشقاق" عن النمط الرأسمالي، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي السياسي، وليس الحصول على استقلال سياسي في ظل سيطرة اقتصادية للمراكز الإمبريالية، ولاقتصاد مفروض يحكم فعل تلك المراكز.

وربما يكون توضيح دور الكيان الصهيوني بشكل دقيق مهماً لفهم الوضع القائم الآن، ذلك أن المنظور الاستراتيجي الذي تشكّل بعد انتهاء الاستعمار بانسحاب إنكلترا وفرنسا، وبدء تقدم أميركا لكي تحلّ محلهما، ومن ثم سيطرتها على الوطن العربي عموماً بعد محاولة قصيرة لـ"الانشقاق" (1952/ 1970)، وكانت هي من رسمه، يقوم على قسم الوطن العربي إلى ثلاث مناطق كبيرة: المغرب العربي الذي كان حينها من "حصة" أوروبا. والخليج العربي الذي خضع للسيطرة الأميركية بسبب النفط، وبات منذ سنة 1980 جزءاً من "الأمن القومي الأميركي" حسب مبدأ كارتر. و"الشرق الأوسط" الذي يضم بلاد الشام ومصر (وكان العراق إلى وقت قريب جزءاً منه).

في هذا التقسيم كانت مهمة الدولة الصهيونية هي إبقاء الشرق الأوسط مفككاً ومتخلفاً، بالضبط لأن وحدة وتطور هذه المنطقة يعنيان توحيد مجمل الوطن العربي، لأنها القلب فيه. وهو ما يسمح بأن يصبح قوة عالمية مؤثرة، إذ يمكن أن يتطور اقتصادياً، ويصبح مستقلاً بالمعنيين الاقتصادي والسياسي. حيث إنه كما ظهر في العصر الحديث أن هذا هو النزوع "الطبيعي" الذي يحكم الشعب العربي، وهو النزوع الذي تريد الدول الإمبريالية تحطيمه كما فعلت مع تجربة محمد علي باشا (1820/ 1840). وهنا يكمن دور الدولة الصهيونية بالتحديد كما سنلاحظ، حيث أوجدت كياناً يقوم بالدور الذي يخدم مصالحها.

وإذا كانت إنكلترا قد أقامت الدولة الصهيونية فقد ورثتها أميركا، وأصبحت مرتكز استراتيجيتها في المنطقة عموماً، رغم أنها عادت ووضعت قواعد عسكرية في منطقة الخليج العربي لكي تتحكم هي مباشرة بالنفط العالمي. ولقد ظل الهدف الأميركي يتمثل في ضمان تفكك الوطن العربي، وتخلفه، وضمان السيطرة المستمرة لشركاتها وسياستها، حيث إنها تريد الأسواق لسلعها ونشاط رأسمالها كما تريد نهب المواد الأولية. ومن أجل ضمان ذلك فرضت نظماً تابعة، وشكلت الاقتصاد المحلي كاقتصاد مفتوح، ليبرالي، وعبر ذلك فرضت أن "يتخصص" في الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد والنشاط البنكي، مانعة كل ميل لبناء الصناعة أو تحديث الزراعة، هذه الزراعة التي عملت حتى تدميرها وتحويل الأرض إلى عقار. وكان وجود الدولة الصهيونية يسهم في تكريس تلك النظم التي قامت بتطبيق سياسة الخصخصة وتعميم اللبرلة، وتنشيط عمليات النهب والسمسرة والفساد.

وكانت الدولة الصهيونية هي الحارس على كل ذلك.


الكيان الصهيوني والسيطرة الإمبريالية 

لا بد أولاً من الإشارة إلى أن هذا الكيان ليس دولة "طبيعية"، لأنها ليست نتاج وجود مجتمعي أنتجها، حيث كانت نتيجة استجلاب مستوطنين من كل أصقاع العالم. ولهذا أشرت إلى أنها قاعدة عسكرية أُقيم عليها "مجتمع" ودولة. ولهذا السبب بالذات كان واضحاً تضخُّم الحاجة الى الجيش والسلاح، وإلى التوظيف في البنية التحتية، وهو الأمر الذي كان يطرح مسألة التمويل، التي أتت من رأسماليين يهود، وكذلك – وبالأساس – من الدول الاستعمارية ثم من الإمبريالية الأميركية.

ورغم نشوء "الدولة" وتطور اقتصادها، ذلك أنها متطورة صناعياً وفي الزراعة والخدمات والعلوم وغيرها، ظلت بحاجة إلى التمويل، بالضبط لأن حاجتها كقاعدة عسكرية، واستمرار استجلاب المستوطنين وبناء المستوطنات، كان يفوق قدرتها الاقتصادية. ورغم أنها دولة صناعية وزراعية إلا أنها ليست منافسة في السوق العالمي في كثير من السلع التي تنتجها، وهو الأمر الذي كان يفرض أن تحصل على حصص من السوق الأميركي في العالم، وعلى تسهيل دخول سلعها إلى أميركا وأوروبا بشروط أقل مما يفرض السوق. إن نسبة التمويل والمساعدة الخارجية من الدخل القومي هي كبيرة (كانت في سنوات سابقة تصل إلى نصف الدخل القومي)، وسيكون كل ميل لتخفيض التمويل أو تقليص المساعدات كارثياً على الدولة ككل.

إن هذا التكوين هو الذي كان يجعلها "جزءاً عضوياً" من أميركا، ومرتكزاً لكل استراتيجيتها في المنطقة. رغم أن الأزمة الاقتصادية الأميركية (والرأسمالية عموماً) أخذت تؤثر في القدرة على تقديم الدعم الكامل، الأمر الذي جعلها تبحث عن ممول جديد (ربما يكون روسيا). ولا شك في أن التحولات العالمية الجارية سوف تؤثر على وضعها بكل تأكيد.

لكن سنلمس الدور الذي قامت به في العقود السابقة ضمن الاستراتيجية الإمبريالية. فقد شاركت في الحرب الإنكليزية الفرنسية سنة 1956 ضد مصر عبد الناصر، الذي كان يسير نحو الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وكان تأميم قناة السويس خطوة مهمة في هذا السياق. لكن، ولأن أميركا كانت تريد انسحاب إنكلترا وفرنسا من المنطقة فقد ضغطت من أجل الانسحاب من الأرض التي جرى احتلالها في سيناء وإنهاء الحرب. ولا شك كان للاتحاد السوفييتي الدور الأهم هنا، حيث كان يدعم استقلال الشعوب ضد الإمبريالية.

لكنها قامت بالحرب سنة 1967 ضد مصر وسورية لهزيمة النظامين اللذين كانا يسعيان لتحقيق الاستقلال ويتحالفان مع الاتحاد السوفييتي، وأصبحا في المعسكر المعادي للاستعمار. حينها احتلت سيناء من جديد، والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، وإذا كانت قد أعادت سيناء مجردة من السلاح، فقد ضمت الجولان والقدس، وعملت منذئذ على قضم الضفة الغربية التي لم تستطع ضمها خشية التغيير الديموغرافي لمصلحة الفلسطينيين، ولهذا نجدها تقضم الأرض وتحاصر السكان.

ومن ثم قامت بالحرب على لبنان سنة 1982، وضربت المفاعل النووي العراقي في سنة 1981.

بالتالي استطاعت أن تلعب دوراً في تفكيك الموجة الثورية التي بدأت في سنة 1952، وتنهي المقاومة الفلسطينية، وتفتح على استلام نظم تابعة لأميركا من جديد. ولقد فعلت ذلك ليس فقط بدعم عسكري أميركي هائل، بل كذلك تحت الحماية السياسية، التي كانت تمنع كل محاسبة لهذه الدولة التي تمارس الإرهاب والتمييز العنصري، ولا تخضع لأي قانون دولي.

من أجل تقدم سورية نريد تحرير فلسطين

رفعنا خلال الثورة السورية شعار: من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط النظام السوري، لكن لا بد من أن نكمل الجزء الآخر من الشعار، حيث: من أجل تقدم سورية نريد تحرير فلسطين.

إن كل ما أشرت إليه يوضّح أن "الدولة" الصهيونية هي ليست "الحل الإنساني" لليهود، بل إن اليهود فيها هم أداة بيد الإمبريالية هدفها حماية الوضع الستاتيكي للمنطقة كما صاغته الإمبريالية ذاتها، فلا تقدم مسموح، ولا وحدة، ولا ديمقراطية، ولا استقلال حقيقي. لهذا فإن كل ميل لتحقيق الحرية والديمقراطية، أو بناء صناعة وتحديث الاقتصاد، أو تحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير التعليم والعلوم عموماً، وتجاوز بالتالي البنى المخلَّفة التي جرى توارثها ومن ثم تكريسها من قبل الإمبريالية. فكل ذلك هو ما فرض إقامة الدولة الصهيونية من أجل مواجهته ومنعه، وتدمير كل محاولة جادة باتجاهه.

كل ذلك يعني أن إسقاط النظام السوري في أفق تطوير الاقتصاد وتحقيق التنمية القائمة على بناء الصناعة والاقتصاد "المتمحور على الذات"، ومن أجل بناء دولة علمانية ديمقراطية، هو بالضرورة يفرض الصدام مع الدولة الصهيونية كما مع الإمبريالية، ويقتضي إزالة هذه الدولة.

لا يظنن أحد بأنه يمكن تحقيق التطور والحداثة في ظل استمرار وجود الكيان الصهيوني، إذ إن كل مسار يهدف إلى ذلك سوف يصطدم بالضرورة بدور هذه "الدولة"، وهذا ما يجعل كل تفكير في التطور والحداثة لا بد من أن يترافق مع موقف وتحضير لمواجهتها. فقط من يريد إسقاط النظام لإحلال نظام مشابه هو الذي لا يعتبر أنه في صدام معها، حيث يقبل أن يكون تابعاً في إطار المنظومة الإمبريالية، وملحقاً يفرض نهب المجتمع لمصلحته ومصالح الطغم المالية الإمبريالية.

إن تقدم الوطن العربي وتوحيده، بناء اقتصاد مجتمع ومجتمع مدني حقيقي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، يفرض بالضرورة مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني، وبالتالي إنهاء هذه "الدولة".