الشخصية الفلسطينية في مواجهة "سيكولوجية الدم والهزيمة"

الشخصية الفلسطينية في مواجهة "سيكولوجية الدم والهزيمة"

13 نوفمبر 2016
تكوين "الشخص الأبي" مر بعدة مراحل (عبدالحكيم أبو رياش)
+ الخط -

الحديث عن "سيكولوجية المقاومة" التي تصف طبيعة المخزون الاستراتيجي لحركات المقاومة الفلسطينية، والتي يمثل المخيم الفلسطيني الحاضن الرئيسي لها، و"سيكولوجية الدم" التي تصف نفسية الدولة الصهيونية وجرائمها على أرض فلسطين خلال سنوات الصراع، ألقى بظلاله على الحالة داخل المخيمات الفلسطينية بشكلٍ خاص والتجمعات الفلسطينية بشكل عام.
تسمية "سيكولوجية الدم" جاءت في كتاب رجل المخابرات الأميركية، جون بيتي، الذي يكشف فيه عن حقيقة الصهيونية من خلال مجموعة من الأفكار التي تمثل مزيجاً بين الاستدلال الفلسفي النفسي العلمي، والاستنتاج من الأحداث الواقعة المتمثلة بالممارسات العملية للعصابات الصهيونية قبل النكبة، وممارسات الجيش الصهيوني وقيادته بعد ذلك. وهي ممارسات كانت تهدف من وراء هذا الكم الهائل من الجرائم إلى إيجاد "سيكولوجية الهزيمة" في أوساط الشعب الفلسطيني من خلال إنتاج شعور ينبع من داخل الانسان الفلسطيني يتمحور حول النظرة للآخر (العدو الصهيوني) صاحب "القوة التي لا تقهر"، و"الجيش الذي لا يهزم"، فيقارنه مع واقعٍ فلسطينيٍ مشردٍ ومقطعٍ بين الداخل والشتات، ومقسمٍ بين الرايات السياسية تارة والعائلية تارة أخرى، فلا يراه إلّا محض أشلاء أكلت منها السباع ما شاءت، وتركتها لجولة قادمة لتكمل جولاتها وتفنيها. ومن حول هذا الواقع، يقبع واقع عربي غارق في صراع الأنظمة على كراسيٍ مرتبطةٍ بولاءات خارجية. لينظر بعدها الفلسطيني إلى حاله فيجد نفسه يعيش في مخيم تضيق أزقته بمرور الوقت نظراً لتوسع البيوت وازدحامها على أهلها، ويزداد معها اعتماده على الغريب (UNRWA) في ظل تقاعس القريب (جامعة الدول العربية) وتراجع دوره مع الوقت، فتكون النتيجة مزيداً من الشعور بالخذلان. شعور يدفعه إلى إقحام مجمل مكونات التفكير لديه نحو "المقارنة" بما هو موجود لدى الآخر (العدو الصهيوني) بغض النظر إن كانت تلك "المقارنة" مناسبة أو لائقة، و
، والتي سرعان ما "تنهار" أمام الأزمات أو الصدمات الحياتية، "عديمة الثقة بالنفس"، والتي تعمل كقوة وطاقه تسهم عادة في تشكيل ما يسمى بـ "جلد الذات". فمستوى "الإرادة الفكرية" هنا يكون دون المستوى المطلوب لدرجه أن إرادة أصحاب تلك الشخصيات تكون شبه "مسلوبة"، لذلك من الصعب أن نلاحظ أنهم ملتزمون بـ"مبدأ" محدد وذلك لغياب "القناعة الفكرية" التامة بمجموعة من القيم المفترض أن توجه مجمل السلوك الإنساني. فترى هؤلاء عرضة لتغيير المبادئ وتلوين المواقف، والأكثر عرضة لجذب واستقطاب مشاعر "الهزيمة النفسية" ومعايشتها، وهذا بدورة يؤسس لحاله "الاستسلام والقرار بعدم المجابهة" أو "الوقوف على الحياد" للمحافظة على الذات، حيث تصبح عملية "المقارنة" سيدة الموقف وهذا أهم مؤشر من مؤشرات "الهزيمة النفسية" و"الاستسلام للواقع".

في هذا الخضم من "حالة الهزيمة" و"الاستسلام للواقع"، ينشأ "تيار الواقعية" ليكون حالة وسطية بين "حالة المجابهة" غير المحمودة المخاطر و"حالة النأي بالنفس" والارتباط أكثر بالمصالح الذاتية المغلفة أحياناً بالحرص على الشأن العام.
وبرغم سوداوية مشهد "الهزيمة" هذا ، تبقى هناك شخصيات في ظاهرة متنامية تنظر لهذه الصورة الماثلة أمام العيان كحالة عابرة مؤقتة، وهذا يدخلنا إلى "سيكولوجية المقاومة"، التي نلمسها من خلال تحديد مفهوم "الإباء" المقترن بعزة النفس والأنفة والكبرياء والشموخ ورفض الظلم والتمرد على الواقع المؤلم والسعي نحو الانتصار. وتنسجم هذه العناصر البنيوية المكونة للمفهوم مع المنطق العلمي المرتبط بسيكولوجية المقاومة على اعتبار أنها بحد ذاتها تمثل اهتماماً نفسياً بسمات وصفات "الشخص الأبي" الذي قلما نصادفه في حياتنا العامة، ذلك أن المقاومة بمعناها الفلسفي يصعب تحقّقها عند الجميع. فآراؤنا التي نظن أنها ذاتية، وأحكامنا القيمية، ورؤيتنا للعالم من حولنا، إنما هي محكومة بعوامل خارجة عن إرادتنا؛ وهي عوامل يعود بعضها إلى عامل نفسي، وبعضها يرجع إلى عامل عقلي، وبعضها مرتبط بتجارب سابقة، وبعضها الآخر متعلّق بموقف راهن أو ظروف آنية. يضاف إلى ذلك التصاقنا بالخلفية الثقافية التي نجد أنفسنا أسرى لها دون قصد؛ وهي خلفيّة تصوغ نظامنا العقلي والنفسي بشكل غير مباشر، وتظهر هذه الخلفية الثقافية من خلال العادات الموروثة، والقيم الأخلاقية، وطرائق التنشئة الاجتماعية، وأساليب حل المشكلات، وأشكال الإحساس بالجمال.
لذلك
 علية من الخارج، ويرفض أن يتحكم أي شخص آخر في تصرفاته على اعتبار أنه على قناعه عقلية تامه بأن كل تصرفاته تحكمها مجموعه من القيم والضوابط والمعايير التي بدورها شكلت له "مبدأ" في الحياة، فهو يدركها جيداً، بعكس المهزوم نفسياً، فهو لا يدرك ذاته لأنه شتتها بتمييع قناعاته التي لم تنضج لتكوين مبدأ صلب، وبالتالي هي معززة ومحصنه من الناحية النفسية لدى "الشخص الأبي" وجدانياً؛ أي انه راضٍ كل الرضا عن ذاته لأنه لا يعتقد انه بحاجه الى من يفرض علية قيوداً ما، فهو واثق من قيمه وتصرفاته ومدرك لها إدراكاً كاملاً.

من جهة أخرى، فهذه الشخصيات لا ترفض الدخول في سجالات منطقية مبنية على احترام "العقل البشري" مع الآخرين كونه يرتكز على شخصية متزنة وقوية ومتواضعة ومنفتحة ومحصنه ثقافياً ووطنياً وعلمياً وقيمياً، وتعتبر نفسها دائما "ندا قويا" أمام الآخر، ويناقش أصحاب هذه الشخصيات باستخدام البراهين والمنطق العلمي وليس مستضعفا أمام القوي كما الحال بالنسبة للشخصية المهزومة.
إن تبلور ظاهرة "الشخص الأبي" بمفهومها الفلسفي العلمي ضمن سياق "سيكولوجية المقاومة" في واقع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بشكل خاص، وواقع التجمعات الفلسطينية في الداخل والخارج بشكل عام، قد مرت بعدة مراحل ودخلت في حالة تنافس خفي مع "الشخصية المتعايشة مع حالة الهزيمة" الناتجة عن تفوق "استراتيجية الدم"، وذلك من خلال عدة مراحل نستعرضها في ما يلي:

مرحلة التبلور ورفض التذويب
ليس من المعقول القول إن ظاهرة "الشخص الأبي" ولدت بعد النكبة في الحالة الفلسطينية، فهذه الظاهرة موجودة بالفعل كظاهرة متنامية ضمن حالة الرفض والمواجهة للاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، ثم الدخول في مواجهة حالة الاستسلام للهزيمة وتقبل الأمر الواقع بعد النكبة "مشروع توطين اللاجئين الموجودين في قطاع غزة في شمال سيناء" والرد عليها بانتفاضة مارس (1955).
مرحلة التمرد والمبادأة: التي تجلت من خلال حالة المواجهة مع النظام العربي الرسمي المتبني لحالة القبول بالأمر الواقع والاستسلام للهزيمة المتتابعة (1948، 1967)، والانفصال عنها من خلال تكريس حالة "الشخص الأبي" التي عبر عنها الفلسطيني عام (1969) باستعادة الكرامة التي انتهت بـ"توحيد الدم"، ولكن سرعان ما انقلبت "حالة الهزيمة" على "حالة الانتصار" في أيلول ولتدخل الحالة الفلسطينية بعدها في حالة "جلد الذات".


حالة التمترس وسط العاصفة: لقد ساهمت محنة المقاومة الفلسطينية في أيلول (1970-1971) بغطاء رسمي على قاعدة "أليس لي ملك مصر؟" وقاعدة: "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين"، بالحظر على الفلسطيني من تحقق تفوق على النظام العربي الرسمي، فكان الرد عاصفاً داخل الحالة الفلسطينية حيث غدت صورة "الشخص الأبي" حالة شبه عامة ضمن الحالة الفلسطينية معبرة عن نفسها باستقطاب "سيكولوجية المقاومة" لهذه الصورة واستعادة بناء ذاتها داخل المخيمات الفلسطينية على الساحة اللبنانية، مستفزة بثباتها ورسوخها خصومها إلى أن تم اقتلاعها مرة أخرى بالتحالف بين "سيكولوجية الدم" و"حالة الهزيمة" فكانت صورة المشهد (كامب ديفيد، صبرا وشاتيلا)، وبعدها تم استحضار الخلاف المذهبي (حركة أمل) لاستكمال عملية اقتلاع الوجود الفلسطيني على الساحة اللبنانية دفعت فيها المخيمات الفلسطينية الثلاث (البص والرشيدية والبرج الشمالي) ثمن الخلاف.
 (1987) من معسكر جباليا وسرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم في باقي المخيمات والتجمعات الفلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة، محدثة حالة احتكاك منعدمة النظير مع "سيكولوجية الدم" متمثلة بقتل الأطفال بالعشرات في اليوم الواحد، فغدت نظرية "الجيش الذي لا يقهر" حبراً على ورق عندما رأى العالم أجمع هذا الجندي المدجج بأحدث الأسلحة يلاحق طفلاً يقذفه بالحصى، أو يصوب سلاحاً رشاشاً على شاب انتصب بكبرياء أمام عربة مصفحة، أو فارساً يحمل همَّ العودة بطوبة يقذفها على دبابة المركافا.
هذه الصورة ألهبت الحماس في شتى تجمعات الفلسطينيين في الداخل والشتات بامتثال سيكولوجية "الشخص الأبي" فأحدثت حالة تعاطف مع الحالة الفلسطينية شملت الأوساط العربية والإسلامية والدولية، ولكن سرعان ما تم الالتفاف عليها من قبل "تيار الواقعية" من خلال اتفاق "أوسلو" الذي أحدث حالة من التعايش بين تيار الواقعية و"سيكولوجيا الدم" ليصبح الهم الأكبر لمنظومة الأمن الفلسطينية حماية المستوطنات والاتفاقات "الأمن الوقائي" و"ملاحقة المقاومة" و"التنسيق الأمني" و"الدوريات المشتركة" في محاولة فاشلة لاحتواء "سيكولوجية المقاومة" وقلبها النابض "الشخص الأبي" لعل اللئام يلقون إليهم بالفتات، ولكن دون جدوى؛ فتم استحضار حالة "الشخص الأبي" في دور وظيفي خارج "سيكولوجية المقاومة"، فكان رد "سيكولوجية الدم" من خلال "السور الواقي"، فعبّر المخيم "جنين" عن هويته بـ"سيكولوجية المقاومة" وقلبها النابض "الشخص الأبي" في ملحمة رائعة كشفت ستر تيار "الواقعية".
(باحث مختص في شؤون اللاجئين الفلسطينيين)

المساهمون