أن تكون ابن المخيم

أن تكون ابن المخيم

13 نوفمبر 2016
كنت الأخَ الخامس لثمانية إخوة (عبدالحكيم أبو رياش)
+ الخط -

أن تجد جسدَك ممدداً في مخيَّمٍ للجوء، يملؤه ضجيج الناس، وحسرةُ الغربة، "وفشكات" الرصاص المنبعثة من بنادق الفدائيين مغروسة في رمال المخيم، واللثمات الملوَّنة تطوف أطرافه، حراسةً لسكانه من ذئاب الليل الموحشة! هي مشاهد من الألم، الممزوج بالروح العفوية المحبة التي يمتاز بها أهالي المخيمات. نظرةٌ واحدة من إحدى زواياه تشرح لك طقوس الناس هناك، طوابير العطشى على بئر المخيم الوحيد، وتكدُّسهم حول موظف UN الأزرق، ليمنحهم بعض الطحين والعدس الداكن والحمص المدقوق بشكلٍ غريب... كان الناس يعرفون جيدا أن بوابة العالم في ذلك الحين تمرُّ من وكالة الغوث الدولية UN وكانوا يعون جيداً أن مجرَّد وجودها يترجم الصورة المنقوصة للإنسانية العالمية، وأن خلف هذا الشعار الأزرق، كمٌ من اليأس ممن حولهم من الدول القرينة، والنائية. كأن الشقاء لم يخلق إلا للاجئين؛ وكأن غزَّال البؤس لم يغزل البؤس إلا لأهالي المخيمات، إلا أن تكاثف الناس ككومات الغيوم في الشتاء يخفف وطأة التهجير ويعطي شيئا ًمن السلوى للبائسين تحت جدران المخيّم.
لم أكن أعلم أن الله سيحييني بعد أن سقطت في الرابعة من عمري من أعلى سطح منزلي، ليُشجَّ رأسي الصغير، وأمكثَ في العناية المكثَّفة أياماً عصيبة، عاشها والداي وأقاربي. حينها لم أكن أعلم ما هي الحياة وما هو (العطاء والخير) كي يثيبني الرب بهذا الشفاء. لا أذكر من طفولتي سوى ملامحَ قليلةٍ من شخصية مشاكسة لم تترك أطفال الحي من تنقُّلها، ولطالما تعوذت من هذه المشاكسة التي كنت أحملها؛ ليتبين لي لاحقا كم كانت ثمينة تلك المشاكسة لمقارعة صروف الدهر. ومما لا يمكن أن أنساه خطواتي برفقة أخي الأكبر إلى المساجد، وكيف كنت أستغفل والدتي رحمها الله لانتعال حذائها. لا أدري لماذا كنا نحب انتعال الأحذية الواسعة، ربما لأننا دوما ما نحاول أن نواري حماقاتنا بشيء من الوقار؟ هذا ما كنت أشعر به عند امتطائي الحذاء الذي لطالما تعثرت به لاتساع حجمه.. لم أكن أعلم حينها أنني كنت أرسم بخطواتي المتعثرة طريقي إلى الله وإلى هذه الحياة، وإلى وطني الذي لطالما حدثوني عنه.
كنت الأخَ الخامس لثمانية إخوة، أصيبت والدتنا سنة 2001 بمرض السرطان وأخذ ينخر جسدها، ولكنَّ لعنة الظروف حالت دون علاجها فتوفيت بعد عامين لتترك أطفالها الواعدين دون راعٍ، ليرحل وطني الثاني سريعاً ولم يزل الهم يعصف بقلب أبي حتى أصيب بمرض السرطان سنةَ 2009 لينجو منه بأعجوبة؛ ولكن سطوة الحزن لم تنفك عنه، فخذله قلبُه قبل أشهر، ليصابَ بجلطة حادة لم تستطع بساطة الإمكانات الطبية مجابهتها، ليرحل إلى قيلولته البرزخية بعد أن قضى 25 عاما في خدمة اللاجئين بوكالة الغوث الدولية، تاركاً أبناءه وحيدينَ في وجه الريح، يحرسون الحلم دونه، وآلافا من اللاجئين البسطاء في شمال غزة ممن أحزنهم رحيله... فقد كانت صورته بالزيِّ الأزرق تشعرهم بالطمأنينة، إذ لم يقصر في خدمتهم يوما ما، وكان بإتقانه للإنكليزية خيرَ سفيرٍ لمعاناتهم أمام البعثات الأجنبية والموكَلين الأجانب في قطاع غزة. وهكذا رحل وطني الثالث بلا وداع.
كأي طفل لاجئ في زقاق من أزقة مخيم جباليا تلقيت دراستي الابتدائية والإعدادية في مدراس وكالة الغوث الدولية للاجئين، كانت تلك المرحلتان شاقتين على أهلي في المخيم، ففي أقل من ثلاثة أعوام اجتاحتنا المجنزرات الصهيونية أكثر من ثلاث مرات، وفي كلِّ مرة كان عدَّادُ الشهداء لا يقف، وكان الإفساد في المحصولات الزراعية والمباني السكنية على أشده. لكن ذلك لم يمنعنا –كأطفال حالمين- من ممارسة الحياة الدراسية، فانتظمنا في المدارس وسْط المظاهرات الجماهيرية، والتجاذبات السياسية، لأجتازها بعد رحلة من التطوع في مكتبة المدرسة والمشاركة في عدد من المسابقات الثقافية والعلمية. لم تكن تجربةً ثمينة؛ لكنها كانت شيقة بلا شك ففيها انفتحت روحي على عالم المطالعة والقراءة، وعكفت على إثراء مخزوني المعرفي. ثم انتقلت إلى المرحلة الثانوية، التي ما لبثت أن تعطَّلت الدراسة فيها مدةَ ثلاثة أشهر بسبب العدوان الشامل على قطاع غزة عام 2008م، كنا عائدين حينها من الامتحان النهائي للغة العربية، كان يومَ سبتٍ، وكانت الحياة طبيعيةً جدا، وكانت غزَّة أشبه بخلية نحل "فهذا أول الأسبوع!" ولكنَّ ذلك لم يدُمْ ففي لحظة واحدة تحولت سماء غزة إلى كومة من النيران الملتهمة، صُعقنا بكمٍّ هائل من أطنان المتفجرات تدكُّ غزة، الكلُّ أصبح يركض ولا يدري أين يركض، فكل مكان في القطاع مُعرّضٌ للقصف، كان قرعُ الأصوات كافياً لتكسير نوافذ المنازل، وبدأت نداءات الإسعاف تدوي في كل غزة. ساعةٌ من الركض والذهول ولا أحد يعرف ما يجري... كانت أصعب لحظة تمرُّ على قطاع غزة منذ عام 1948، حينها في ساعة واحدة ارتقى أكثر من 420 شهيداً وأصيب أكثر من ألفي مواطن،
واختلطت دماء الشُرَطيين والمقاومين بأبناء الشعب، كانت هذه الضربة إيذانا بعدوانٍ شامل استمرَّ 21 يوماً طاول جميع أطرافه، وحارب الزرع والاقتصاد والمبنى والإنسان، استشهد فيه المئات من الأطفال والنساء والشيوخ... كنا في المرحلة الثانوية، وانقطعنا شهرين عن الدراسة، ثم باندفاع الشباب عدنا لمقاعد الدراسة لنستجمعُ ذكرياتنا عند أول يومٍ دراسي، كانت أياما عصيبة وشاقة؛ لكنها بلا شك لم تثننا عن استكمال طموحاتنا الوطنية والشخصية...
كانت المرحلة الثانوية قيِّمة على الصعيد الشخصي والعلمي، ففيها بدت مخايل موهبتي الأدبية، وفيها كانت تجربتي الأولى في العمل الطلابي، وفيها حظيت بعضوية تأسيسية في الملتقى الإبداعي الشبابي بوزارة الثقافة، مما كان له دور في اهتمامي بالمطالعة وأعطاني فرصة أكبر للاختلاط بالبيئة الثقافية والأدبية لأنهيها بتقدير جيد جدا في الفرع العلمي.
قررت الالتحاق بتخصص إدارة الأعمال بالجامعة الإسلامية، ثم عملت في إذاعة الجامعة مدققاً لغوياً ومعداً للبرامج، ومع التجاذب الطلابي النقابي، تم في بداية العام الثاني انتخابي عضواً في اتحاد الطلبة، لتكوِّن هذه المرحلة انعطافاً جديداً وموسَّعا في العمل النقابي، لأجد نفسي – لأول وهلة - متصلباً أمام 22 ألف طالب وطالبة... كان هاجس الفشل يثيرني؛ لكنها كانت من أجمل اللحظات، وأصدقها، وأكثرها تميزاً. استمررنا لعامَين كاملَين في خدمة الطلبة اللاجئين المنتشرين في مخيمات: (الشاطئ، وجباليا، والبريج، والمغازي، النصيرات، وخانيونس والشابورة) وغيرها من محافظات غزة، وحاولنا أن نجعل حياتهم الجامعية بتعقيداتها الأكاديمية والإدارية أكثرَ سلاسة، وسعادة، وتميز. تخللت تلك الفترة عشراتُ الأنشطة الثقافية والرياضية والفكرية والسياسية، وفي تلك المرحلة حصلت على لقب شاعر الجامعة الإسلامية في القصيدة التي جمَّعتُ فيها نكباتنا العربية. ثم تم اختيارنا عام 2013 ضمن وفدٍ طلابي خارج فلسطين في رحلة أكاديمية إلى دولة مصر، كانت هذه المَهمة مُهمة لنا، في نقل ظروف العيش في غزة ونقل تجاربنا وتطلعاتنا خارج الإطار المحاصر؛ ولكن سرعان ما ارتطمَ هذا الحُلم بجدران المعبر، فقد تم إقصاؤنا عند أولى عتبات الجانب المصري، لنعود إلى بلادنا بصحبة الآلاف من المرضى والطلبة ممن تم إقصاؤهم من لاجئي مخيمات غزة، وسكانها الأصليين!
بعد انتهائي من اتحاد الطلبة انتقلت للعمل في وزارة الإعلام على مبدأ التشغيل المؤقت وكانت فرصة طيبة للتعرف إلى صحافيين من عدة مخيمات، كمخيم جباليا والشاطئ والبريج والنصيرات يجمعهم نفسُ الشغف – شغفُ العودة - ؛ ولكن ما أن تعرضت الحكومة لأزمتها المالية أخذتْ قراراً بإعفاء ذوي التشغيل المؤقت.
إن تجربة اللجوء علَّمتني أن بلادنا لن تتحرر بالعسكرة الشاملة، ولا بالتسيُّس التام، ولا بالتعليم والاقتصاد الشامل أيضا؛ وإنما ببسْطِ الورقة السياسية ورشِّها ببارود الرصاص، وضمِّها ثم لفِّها بالوحدة الوطنية! فلا قيمة لغصن الزيتون عندما يتلطَّخ بدماءِ طفلٍ لاجئ، ولا قيمة لطاولة السياسة ما لم تتكئ على بندقيةِ ثائر!
علمتنا الظروف أنه لا يمكن لنا أن نهزم قوَّة الشر الصهيونية إلا بعد أن نتخلى عن دروشاتنا وخيالاتنا، ويجب علينا أن نولغ أيدينا في صنائع السياسة والاجتماع والتنمية والاقتصاد، حتى وإن اضطررنا أن نوغِلَ أيدينا في الوحل كي نعرف كيف يصنع الأعداء لعبتهم القذرة كي نهزمهم بها!
أؤمن أن الإنسانية والعدالة مخبأة في صُرَّةٍ ما على طرف الكون، وإن هذه الصرَّة مقدَّرٌ لها ألا تُفتَح إلا بعد أن تلتئم جراحُ اللاجئين والفقراء والأخلاقيين في العالم بدءاً بنا كفلسطينيين ومروراً بفقراء الأميركيتين وأفريقيا، وانتهاءً بالعراقيين واليمنيين والليبيين والمصريين ... والسوريين.
إن استرجاعَ "العدالةِ والإنسانية والرفاهية والسلام" لهذا العالم هو أحد أهدافي في الحياة، التي أدعو الله أن يعينني عليها.

(ناشط من مخيم جباليا/غزة)

المساهمون