آخر "التاريخيين"

آخر "التاريخيين"

23 أكتوبر 2016
(في الذكرى العاشرة لرحيل عرفات، تصوير: شادي حاتم)
+ الخط -

أياً يكن الشخص الذي سيخلف محمود عباس، على كرسي السلطة المتهالك، لن يحمل واحداً من هذين اللقبين "الفصائليين" اللذين يحملهما عباس: أبو مازن، وأحد القادة "التاريخيين" لحركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح. أبو مازن هو آخر الأبوات، وآخر قادة فتح المؤسسين في السلطة الفلسطينية. هناك أب، أو اثنان، ولكن خارج "الطرح".

كل الكلمات التي وضعتها بين مزدوجين ترقى إلى زمن "الفاكهاني"، وما قبله. وهذا الزمن، بكلماته، برموزه، بما كانه عربياً وعالمياً، ينبغي أن ينتهي. هذا بالضبط ما مثَّله الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت (ثم دخولها) صيف عام 1982. كانت السفن التي تقل "القادة التاريخيين"ومقاتليهم تغادر تاريخاً معلوماً وتبحر في تاريخ مجهول.

وها هو "التاريخ" يصل إلى غايته وتمامه. وصلت مرحلة ما بعد بيروت إلى تاريخ انتهاء صلاحيتها. لم تتأخر كثيراً ولم تتقدم كثيراً. كانت فترة كافية لكي يحدث التحلل في الجسد الجريح. إنهم لا يستعجلون ما يعرفون أنهم واصلون إليه. إنهم ليسوا آلهة، ولا متنبئين. هم، فقط، جراحون وأطباء وعلماء بيولوجيا. يعرفون كم هي المدة الكافية ليتحلل فيها جسد ثورة جريحة من دون أن تتلقى علاجاً حقيقياً.

التاريخ وصل وهو يدقُّ الباب. لكن المدقوق عليهم ليسوا جاهزين لشيء. إنهم، في الواقع، غافلون عن موعد الاستحقاق وما هو المستحق عليهم دفعه. أكثر من ثلاثين عاماً، ثلثاها انقضت في تفاوض سقيمٍ، بلا أهلية أو جدارة، مع من لا يدفع إلا تحت الضغط، وربما لا يدفع، لأنه يعرف أن للدفع بداية ولكنه، في حالته، يؤدي إلى النهاية.

كفى توريات ومواربة. لقد جرّتني "لغتنا الجميلة" إلى نهرها الهادر ونسيت، مثل السلطة الفلسطينية، أن هناك شيئاً يسمى معنى. لا قوة فلسطينية، لا هيئة رسمية كانت أم شعبية، عملت على تأسيس معنى للوجود الفلسطيني الفصائلي القائم على بقايا خطاب أكل الدهر عليه وشرب.

سلطة تحيا يوماً بيوم. وقوى تجرُّ أجسادها الخائرة يوماً بيوم. فيما إسرائيل لا تترك فرصة للخطأ. ولا للنوم. ولا للحتمية، حتى وإن كانت قادمة من آباء التوراة. هذه الأخيرة والتواريخ المصطنعة والروايات المزيفة عن وجود قديم لا تعني شيئاً في غرف العمليات. الأسفار الدينية والأيديولوجيا القومية مجرد "عدة نصب" ليس إلا. الحقيقة بالنسبة لهم خارج الألواح والتوابيت الضائعة.

لا يوجد حق، في الواقع، من دون عمل على نيله. وجماعتنا لا يفرطون في حق شعبهم بل هم بعيدون عنه. وهذا الصراع على كرسي السلطة والعمل على القطع النهائي مع الثورة، في أيّ شكل كانت، خير دليل على أن القضية في وادٍ ونحن (أقصد نخبتنا السياسية) في وادٍ آخر.

ثمة من يقول إن أي "رئيس" بعد عباس أحسن من عباس. فهذا الرجل، الذي ينتمي إلى زمن الأبوات، يفتخر بأنه لم يطلق رصاصة في حياته. صحيح أن فترة عباس هي واحدة من أسوأ الفترات في عمر القضية الفلسطينية، لكن القادم أسوأ. وها هم يعدّون له العدّة في غير عاصمة عربية متواطئة. ليس بالضرورة دحلان. كلا، هناك من هم مثله وعلى قياس "المرحلة".

الركاكة والزحف على الركبتين لا ينتجان زعماء. بلاش زعماء: لا ينتجان موظفين يحترمون وظائفهم. أن تكون رئيساً هي وظيفة في بلاد العالم.. وهناك من يحاسبه عليها.

لا مجال لزعيم فلسطيني اليوم. من أين سيأتي أصلاً؟ ولكن ربما يكون موجوداً في غير هذه الطبقة التي أفسدت السلطة وأفسدتها. إنه على الأغلب في الشارع. سيراه الناس في التظاهرة، التي لا بدَّ أن تأتي، وعندها سيشيرون إليه باليد.


* كاتب وشاعر أردني

المساهمون