من تاريخ المنتخبات (3)... حقول هولندا تسقيها سورينام

من تاريخ المنتخبات (3)... حقول هولندا تسقيها سورينام

25 نوفمبر 2022
منتخب هولندا الفائز بكأس أوروبا عام 1988 (Getty)
+ الخط -

مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.

 

وصلت هولندا لثلاث مرات إلى نهائي كأس العالم في نسخ؛ 1974 و1978 و2018. وفي كل مرة تخسر اللقب في الأشواط الإضافية، ولمرتين أمام منتخبَيْن مستفيدين من عامل الجمهور (ألمانيا والأرجنتين). في مناسبات أخرى، غادرت في النصف النهائي، كما في 1998 و2014، أمام البرازيل والأرجنتين توالياً، وإلى ذلك حقّقت هولندا لقباً أوروبياً عام 1988.

وفي الأثناء، قدّمت هولندا - منذ بزوغ نجمها الكروي خلال عقد السبعينيات - لاعبين ومدرّبين لا يمكن أن نتذكر الكثير من فصول كرة القدم العالمية دون التطرّق لمنجزاتهم، مثل يوهان كرويف وماركو فان باستن وكلارنس سيدورف ورود غوليت ودينيس بيركامب وآريين روبن، وصولاً إلى فيرجيل فان دايك (قائد الفريق حالياً) وجورجينيو فينالدوم في أيامنا.

هذه العناصر تمنح هولندا موقعاً متقدماً في خريطة كرة القدم العالمية، وهو موقع لا يوافق تماماً حجمها الجغرافي والديمغرافي، ولكن يبدو أن سر هذا البلد يكمن في توليد القوة من قلة الإمكانيات.

لقد زاحمت هولندا من قبل - رغم حجمها ذاك - الدول الاستعمارية وانتزعت نصيبها، ومن هذا النصيب موّلت كرتها بالمواهب، بعد نهاية الزمن الاستعماري، خصوصاً من سورينام، هناك حيث تعود أصول لاعبين مثل غوليت وفرانك ريكارد وإدغار ديفيدز وسيدورف.

لن تجد في هولندا تلك الإشكاليات في اندماج أبناء المهاجرين في نسيج المنتخب كما نجد ذلك في منتخبات أوروبية أخرى. ولقد بدأ ظهور أصحاب البشرة السمراء في وقت متقدّم عن بقية منتخبات أوروبا الأخرى مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا. حالة التصالح هذه تَظهَر في الانسجام الذي يعدّ أحد عوامل قوة المنتخب البرتقالي، حيث يندمج الجميع في رؤية تكتيكية واحدة تضع الفريق في مستوى من الندية مع أي منافس حتى لو كان من كبار اللعبة مثل البرازيل أو ألمانيا أو إيطاليا.

وكما فعل الهولنديون من قبل حين أخذوا من البحر مساحة للتمدّد، هكذا يفعلون في كرة القدم حيث يكتسحون كل المناطق الفارغة والثغرات التي يتركها المنافسون. في السبعينيات، كانت البرازيل التي سيطرت لعقدين على الكرة العالمية قد خبا بريقها بعد اعتزال بيليه، وعادت إيطاليا لبناء جيل جديد بعد هزيمة نهائي 1970، وكانت ألمانيا تعيش نهاية جيلها الذهبي مع فرانس بيكمباور وغيرد مولر. في تلك الفراغات تقدّم الهولنديون كقوة كرَوية عظمى.

في دورة كأس العالم عام 1974، أرجع المتابعون التألق الهولندي إلى موهبة يوهان كرويف، ولولا الاصطدام بمنتخب ألماني خدمته كل الظروف (الأرض، الجمهور، الخبرة...) لآلت كأس العالم لمنتخب كان يشارك وقتها للمرة الثالثة في نهائيات كأس العالم لا غير. لكن ورغم أنّ كرويف قد قاطع كأس العالم 1978 احتجاجاً على النظام العسكري الأرجنتيني، وصلت هولندا إلى النهائي مجدّداً، كان لا بدّ من البحث عن تفسيرات أعمق للظاهرة البرتقالية. بدأ الجميع يفهم أنّ قوة هولندا تكمن في منطق اللعب الجماعي الذي تتبناه.

خلق الصعود الهولندي انتباهاً جديداً للبعد التكتيكي - باعتباره فرصة للتحايل الإيجابي مع قلة الإمكانيات - كعامل أساسي لتحقيق الانتصارات في كرة القدم. لقد بات مفهوم "الكرة الشاملة"، حيث يتقاسم المدافعون والمهاجمون كل الواجبات، ورقة ينبغي أن تلعبها الفرق وإلا باتت خارج الحداثة الكروية. ومع وصول النزعة التكتيكية الجديدة إلى بقية المنتخبات ستستأنف القوى الكروية التقليدية مثل إيطاليا وألمانيا هيمنتها معيدة هولندا إلى "حجمها الحقيقي" لبعض الوقت، ففي بداية الثمانينيات كان جيل النهائيَّيْن قد انتهى، ودخلت هولندا في بيات شتوي حتى أنها لم تبلغ نهائيات كأس العالم 1982 و1986، وكانت فترة اختمار جيل جديد جرى التخطيط له لإعادة بناء فريق تنافسي.

في هذه المرحلة تحديداً، لَعبت هولندا ورقة التطعيم السورينامي على أحسن وجه فخلقت توليفة أوروبية - جنوب أميركية أعادتها للواجهة مع جيل الثلاثي: ريكارد - غوليت - فان باستن. جيل حقّق أمجاد هولندا بتتويج أوروبي في ألمانيا عام 1988، كما صنع ربيع فريق ميلان الإيطالي الذي سيطر على الكرة الأوروبية نهاية الثمانينيات.

وعلاوة على اللاعبين، قدّمت هولندا مدرّبين من طراز فريد، أحدهم لويس فان غال الذي يقود اليوم مغامرة الفريق البرتقالي في نهائيات كأس العالم قطر 2022، ولكن أوّل هؤلاء هو صاحب نظرية "الكرة الشاملة" رينو ميكاليس، ثم وريثه ومطبّق أفكاره في الميدان يوهان كرويف الذي يعترف له الجميع بمهاراته الكروية والفكرية على حد سواء. ومن حين لآخر يلمع نجم هذا الاسم الهولندي أو ذلك، مثل ديك أدفوكات، وغوس هيدينك، وبيرت فان مارفيك. لنا أن نلاحظ بشكل عابر أنه لا يوجد بينهم مدرّب من أصول سورينامية.

يُعبّر هؤلاء المدربون عن منظور هولندي خاص بكرة القدم، حيث تأخذ اللعبة بُعداً عِلمياً لا ينفي أبعادها الأخرى في خلق المتعة وتوظيف المهارات الفنية والبدنية لخدمة هدف جماعيّ واحد. يشبه ذلك حقول هولندا بتموّجاتها وتلوناتها التي خلّدها فنانوها في ما يُعرف بالعصر الذهبي الهولندي (القرن السابع عشر)، وفي حال حقّق فريق فان غال كأس العالم هذا العام سيصبح هذا الجيل - الذي يكاد يخلو من النجوم - عصراً ذهبيّاً جديداً لهولندا، فوحدها النتائج تصنع العصور الذهبية.

المساهمون