فيضانات وجفاف... أزمات متضاربة في الساحل الأفريقي

فيضانات وجفاف... أزمات متضاربة في الساحل الأفريقي

22 سبتمبر 2020
ينقذ ما أمكنه في ضواحي نيامي (بوريما هاما/ فرانس برس)
+ الخط -

هناك مفارقة تواجه الساحل الأفريقي؛ فالمنطقة باتت قاحلة بسبب زحف الصحراء، لكنّ الفيضانات المدمرة تجعل العقوبة مزدوجة. وبينما يشكو السكان من الأخطار التي تلاحقهم، لا تبدو خطط التنمية فعالة

رجل يحمل أفرشة على رأسه بينما قدماه في الماء. امرأة تضع ما تمكنت من إنقاذه من أوانيها في شبه قارب. شبان يحاولون بناء سدّ رملي على عجل أمام أكواخ طينية نصف مدمرة... هي صور باتت عادية منذ سنوات في منطقة الساحل الأفريقي (أراضي الدول، بكاملها أو بأجزاء منها، الواقعة بين المحيط الأطلسي والبحر الأحمر). ومؤخراً انتشرت على الشبكات الاجتماعية صورة سيارة رباعية الدفع تُسحب بأعجوبة من المياه وسط هتاف الجمهور.
بعيداً عن صورتها المعهودة منذ سنوات، أصبحت سهول السافانا قاحلة أكثر فأكثر بسبب تقدم الصحراء وتناقص كلّ شيء بدءاً بالماء، وفي الوقت نفسه تدمّر هذه المنطقة بانتظام فيضانات عنيفة. لم يعد المطر الحيوي بالنسبة لملايين المزارعين والمربين يُنتظر دائماً بفارغ الصبر، بل على العكس تماماً، ففي المدن الكبرى على وجه الخصوص، يُعرف أنّ المطر سيأتي في الغالب عند نهاية شهر أغسطس/ آب أو بداية شهر سبتمبر/ أيلول، وإنّه سيؤدي إلى فيضانات هائلة ومأساوية متسبباً في أضرار كبيرة بما في ذلك خسائر بشرية تؤدي إلى حداد آلاف العائلات.
"القصة نفسها في كلّ سنة؛ أقدامنا في الماء. فما عسانا نفعل حيال ذلك؟" هكذا يشتكي علي من سكان نيامي، عاصمة النيجر، بعدما غمرت حيّه لاموردي، مياه نهر النيجر في بداية سبتمبر/ أيلول الجاري، وقد اضطر إلى إرسال عائلته إلى بيت أصدقاء حتى ينتهي من تنظيف منزله.

الصورة

من النيجر إلى السودان
تأثرت العاصمة النيجرية بشكل خاص هذه السنة. فقد غمرت المياه عدة أحياء، بما في ذلك تلك الواقعة على الضفة اليمنى، حيث توجد الجامعة، بعد انهيار سدّ لم يصمد أمام قوة مياه النهر. وحتى السابع من سبتمبر/ أيلول الجاري، أحصت السلطات ما لا يقل عن 65 قتيلاً (14 منهم غرقاً)، وانهيار نحو 32 ألف بيت، مع نحو 330 ألف منكوب، وآلاف الهكتارات من المحاصيل المدمرة في النيجر.
بلد آخر تأثر بشكل خاص هذا العام هو السودان، إذ سجل، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نحو 100 قتيل و71 ألف منزل مدمر و720 ألف منكوب، محاصرين بأمطار غزيرة في الغرب، وبارتفاع مياه النيل في الشرق. في هذا البلد، حيث أعلنت حالة الطوارئ الوطنية لمدة ثلاثة أشهر، تقدّر هذه الفيضانات بأنها الأكبر منذ عام 1946. وقد وصل مستوى ارتفاع نهر النيل إلى 17.43 متراً، أي أعلى مستوى على الإطلاق جرى تسجيله خلال قرن.
كذلك، تساقطت أمطار غزيرة على بوركينا فاسو، حيث أعلن عن حالة الكارثة الطبيعية في 9 سبتمبر/ أيلول الجاري، في حين جرى إحصاء 13 قتيلاً. وفي نيجيريا سجل أكثر من 30 قتيلاً. وتضررت تشاد وموريتانيا، كما السنغال حيث تأثرت العاصمة دكار بشكل خاص، إذ سقطت في 5 سبتمبر/ أيلول الجاري وحده كمية من الماء تفوق تلك التي تسجل خلال ثلاثة أشهر من التساقطات لموسم الأمطار الذي يوصف بـ"العادي". ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تضرر ما يقارب 760 ألف شخص من الفيضانات التي مست خلال الأسابيع الأخيرة غرب أفريقيا وجزءاً من وسط أفريقيا. 
باتت هذه الأحداث، التي كانت تفاجئ الجميع قبل عشر سنوات، بالكاد تصدم أحداً اليوم. 
يقول النيجري علي: "اعتدنا على ذلك في النهاية. صرنا نعيش معها". في عام 2019 أثّرت الأمطار الغزيرة على أكثر من مليون شخص في 11 بلداً في جنوب الصحراء. ففي معظم بلدان الساحل تكاثرت الفيضانات خلال السنوات الأخيرة وعلى الخصوص في المدن الكبرى، من قبيل نيامي في 2010، و2012، و2013، و2016، و2017؛ وكذلك العاصمة البوركينية، واغادوغو، في 2009، و2012، و2015.

في الأول من سبتمبر/ أيلول 2009، شهدت واغادوغو سقوط 263 ملم من مياه الأمطار في غضون 12 ساعة، وهو أمر غير مسبوق. وبعد 11 عاماً، ما زال سكان واغادوغو يذكرون ذلك. وقد فاضت الحواجز المائية وغمرت المياه 54 حياً، مُخلّفة 125 ألف منكوب. "تمكنا أنا وزوجتي بالكاد من حمل ابننا والفرار. حدث كلّ شيء بسرعة كبيرة. ارتفعت الماء إلى 1.50 متر وانهار المنزل"، هذا ما كان يقوله أنطوان منذ سنوات، وهو أحد الناجين الذين تمت إعادة إسكانهم بعيداً عن وسط المدينة من طرف السلطات العمومية. وفي اليوم نفسه، سقطت أمطار عنيفة على شمال النيجر، وسط الصحراء، متسببة في فيضان كبير لوادي تليوة، والذي غمر مدينة أغاديس متسبباً في أضرار جسيمة (3 وفيات، وما يقارب 80 ألف منكوب وحقول مدمرة).

أراضٍ متدهورة لا تمتص الماء
كيف يمكن تفسير أن تتسبب المياه بأضرار لمنطقة يعرف عنها أنّها جافة ومهددة بزحف الصحراء؟ طبعاً يفكر الجميع في الاحتباس الحراري. في عام 2016، أعلن معهد البحث والتنمية بأنّ غرب أفريقيا "يشهد ارتفاعاً لدرجات الحرارة أكثر من أيّ مكان آخر، مع زيادة بـ1.2 درجة مئوية في العقود الأخيرة مقابل متوسط 0.7 درجة. ويبدو أنّ ذلك يترجَم بتكاثف الفترات الممطرة". ويلاحظ لوك ديكروا، وهو مدير بحث في الهيدرولوجيا بمعهد البحث والتنمية، والمتخصص في منطقة الساحل، أنّ هذه الفترات ليست أكثر تكراراً مما كانت عليه في الماضي: "منذ عام 2005، لاحظنا أنّ الأمطار تهطل بقوة أكبر من ذي قبل في منطقة الساحل، ونعتقد أنّ ذلك مرتبط بالاحتباس الحراري. وكما هي الحال في أماكن أخرى فذلك يتسبب في مضاعفة ما يسمى بالأحداث القصوى". 
أكد باحثون فرنسيون قبل عامين أنّ "هذا التكثيف في الدورة الهيدرولوجية يتماشى مع نظرية كلاوزيوس ـ كلابيرون، أي جوّ أكثر سخونة يحتوي على مزيد من بخار الماء ويصبح أكثر انفجاراً. وقد لوحظ ذلك في مناطق أخرى من العالم، لكنّه يتجلى في الساحل أكثر من أيّ مكان آخر". وبالتالي فسكان هذه المنطقة هم ضحايا لعقوبة مضاعفة: "هذا المناخ الجديد له عواقب وخيمة بشكل خاص، إذ يجعل المحاصيل غير مضمونة أكثر بسبب فترات جفاف أشدّ، ويزيد في وتيرة الفيضانات".

الصورة

الزيادة في هطول الأمطار شديدة الغزارة لا تفسر وحدها فيضانات السنوات الأخيرة، على الأقل في ما يتعلق بفيضانات أنهار مثل النيجر أو النيل. يطرح لوك ديكروا عاملاً آخر مرتبطاً بفترة الجفاف التي أثرت بشدة في المنطقة في السبعينيات والثمانينيات: "لمدة تتراوح بين 25 و30 عاماً، وأحياناً أكثر، وعلى مساحة 4 إلى 5 ملايين كيلومتر مربع، عرف منسوب سقوط الأمطار عجزاً ما بين 15 و35 في المائة. يمكننا اليوم أن نعتبر أنّ هذه الفترة الجافة قد انتهت، فمنذ عام 1995 (1999 في غرب الساحل)، عاد معدل هطول الأمطار السنوي إلى مستواه وإلى عدم انتظامه السنوي لفترة 1900 ـ 1950، فالسنوات ما بين 1951 و1970 تعتبر رطبة". هذا ما يلاحظه لوك ديكروا في كتاب "مسارات ورهانات الماء في منطقة غرب أفريقيا السودانية ـ الساحلية". ويتابع: "خلال هذه الفترة تدهورت التربة. يقال إنّها تيبست. وهكذا تبع الجفاف المناخي جفاف ترابي. عندما عادت الأمطار، ابتداء من عام 1994، ووصلنا إلى مستوى يساوي الذي كان في الأربعينيات من القرن الماضي، لم تعد التربة قادرة على امتصاص كلّ هذه المياه. وهو ما يتسبب في الجريان السطحي الذي يؤدي إلى فيضانات كبيرة للأنهار".

احتباس حراري ونمو ديمغرافي
ووفقاَ للوك ديكروا فإنّ الزيادة في الجريان السطحي مرتبطة أيضاً بتعرية التربة من طرف المزارعين. فهو يرى أنّ النمو الديمغرافي القوي الملاحظ في النيجر منذ الخمسينيات من القرن الماضي (تزايد السكان من 3.2 ملايين نسمة في 1960 إلى 15.5 مليونا في 2010) كان له تأثير على استعمار الأراضي. فامتداد الزراعات والتقليل من فترات الراحة أديا إلى تيبس شديد للقشرة الأرضية. ولاحظ معهد البحث في التنمية في 2016 بأنّ "فترات الراحة التي تسمح للأرض باسترجاع خصائصها الأولية، خصوصاً تلك المتعلقة بتسرب مياه الأمطار، لم يعد يُعمل بها عندما تتجاوز كثافة السكان الذين يتعين توفير غذائهم من 20 إلى 30 نسمة في كلّ كيلومتر مربع. وأصبح يعيش في المنطقة اليوم محلياً أكثر من 100 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، وما زال النمو الديمغرافي قوياً".

ويبدو أنّ هامش مناورة أصحاب القرار السياسي المحليين ضيق. على الرغم من ذلك، يشير العديد من الباحثين بأصابع الاتهام إلى مسؤوليتهم، أو بالأحرى إلى لا مسؤوليتهم. لنأخذ مثلاً مدينة نيامي. صحيح أنّ عاصمة النيجر، بحكم موقعها الطوبوغرافي وبسبب ترسبات مجرى نهر النيجر الملاحظ منذ بضع سنوات (والناتج بالخصوص عن التصحر وإزالة الغابات) معرضة بشكل خاص لمخاطر الفيضانات، لكنّ هذه المخاطر تتفاقم بسبب تنمية حضرية غير مدارة بشكل صحيح، وبسبب غياب البنية التحتية لصرف المياه بفعالية. يلاحظ حمادو إيساكا، المكلف بالبحث بمعهد البحوث في العلوم الإنسانية بنيامي أنّه "في نيامي، ليست شبكات تصريف المياه ملائمة، بل إنّها أحياناً غير موجودة، وهذا ما يحصل في الأحياء التي يُعرف أنّها الأكثر عرضة للخطر. وفضلاً عن ذلك، يقيم الناس في مناطق معرضة للفيضانات بسماح من السلطات التي تعرف المخاطر التي تنطوي عليها تلك المناطق". هذه العادات السيئة تطورت خلال فترات الجفاف، عندما كان يُعتقد أنّ النهر لن يعود أبداً إلى مستواه السابق. مع ذلك، يرفض الباحث النيجري مفهوم "التحضر الفوضوي". فهو يرى أنّ "المناطق المعرضة للفيضانات معروفة ومحددة بالخرائط" لكنّ السلطات والقادة التقليديين "لا يفعلون شيئاً" عندما يستقر فيها الناس.
في دراسة نشرت عام 2009، ذكر حمادو إيساكا، أنّ "المناطق المعرضة للفيضانات هي المناطق التي يسهل فيها للفقراء الوصول إلى قطعة أرض، لأنّ تلك الأراضي لا تغري الأغنياء". وقد ذكر على الخصوص قائد حيّ في العاصمة نيامي شرح الوضع كما يلي: "يحدث الفيضان كلّ سبع سنوات تقريباً في هذا الحيّ. تسقط أحياناً منازل نتيجة لهذه الفيضانات. ويؤدي إلى هذا الوضع أنّ الناس سئموا من استئجار منازل في المدينة. عندما يأتي شخص، حتى ونحن نحذره من أنّ المنطقة معرضة للفيضانات، يقول إنّها ليست مشكلة، فالمهم بالنسبة له هو العثور على قطعة أرض لبناء مأوى".

عندما يُطرد الناس
تقوم السلطات العمومية بترحيل السكان الذين يعيشون في المناطق المعرضة للفيضانات بشكل منتظم، لكن، كما يلاحظ وزير داخلية سابق، من النيجر، طلب عدم ذكر اسمه "عندما يُطرد الناس، ينشأ توتر شديد، لأنّهم يرفضون إعادة إسكانهم في أماكن أخرى". ويلاحظ لوك ديكروا بأنّه "يعاد إسكان بعضهم لكنّهم يعودون على الرغم من خطر فقدان كلّ شيء". وجرى تنفيذ مشاريع من طرف حكومات مختلفة، في النيجر والسنغال وبوركينافاسو على وجه الخصوص، وغالباً بدعم مالي وتقني من الجهات المانحة، التي جعلت من هذه المشكلة إحدى أولوياتها. تقول جولي بيلانجي، مديرة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في وسط أفريقيا وغربها: "بوشرت جهود متزايدة للاستعداد واستباق حالات الطوارئ" لكنّها تعترف أيضاً بأنّ الموارد غير كافية "وربما" هناك أيضاً غياب إرادة حقيقية من طرف الحكومات لجعل القضية أولوية قصوى.
نشأ جدال في السنغال بعد الفيضانات الأخيرة، مع تذكير العديد من المنكوبين بوعود الحكومة: ماذا عن قنوات الصرف التي أعلن الرئيس ماكي سال عنها خلال حملته الانتخابية الأخيرة، وهي شبه مفقودة اليوم؟ وماذا عن تنظيف المناطق المعرضة للفيضانات؟ وماذا عن 766 مليار فرنك أفريقي (أكثر من 1.16 مليار يورو) مخصصة في عام 2012 للبرنامج العشري لمكافحة الفيضانات؟

في النيجر، أعلنت السلطات عن إنشاء صندوق بقيمة 372 مليار فرنك أفريقي (أكثر من 567 مليون يورو) بهدف إعادة إسكان المنكوبين وتقديم دعم غذائي لهم وكذلك تنفيذ أشغال للصرف الصحي وبناء حواجز في نيامي ومدن عدة أخرى في البلاد. يتأسف علي، المنكوب من حي لاموردي قائلاً: "إنّه أمر جيد لكنّه يأتي متأخراً قليلاً. فالمشكلة ليست جديدة". يتذكر هذا المعلم أنّه في اليوم الذي كان فيه هو وجيرانه يتناقشون قبالة مياه النهر، كان رئيس النيجر، محمدو إيسوفو، يستقبل بحفاوة كبيرة رؤساء دول المنطقة بمناسبة انعقاد إحدى القمم الكثيرة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، مع أصوات صفارات الإنذار والسجاد الأحمر الممتد عند مداخل الفنادق الفخمة التي نمت خلال هذه السنوات الأخيرة بالعاصمة، والتي يفاخر بها أنصار إيسوفو. يتساءل علي: "بهذا المال الذي أنفق في بناء هذه الفنادق أو المطار الجديد، كم من بالوعات كان يمكن بناؤها أو تنظيفها في المدينة؟ وكم من سدّ قوي حقاً كان يمكن أن يخرج من الأرض؟" السؤال ينطبق على جميع بلدان الساحل.

ينشر بالتزامن مع:
https://orientxxi.info/ar 

المساهمون