جزيرة "قرقنة" التونسية.. حيث يتملك الناس البحر

جزيرة "قرقنة" التونسية.. حيث يتملك الناس البحر

30 مارس 2015
"الشرافي" طريقة صيد تقليدية مستخدمة في قرقنة (Getty)
+ الخط -

جزيرة "قرقنة" القريبة من صفاقس (جنوبي تونس) تمثل المكان الوحيد في العالم الذي يحق فيه للأشخاص امتلاك "قطعة بحر" بالوثائق القانونية والتقسيمات الحدودية، حيث يباع البحر ويُشترى أو يؤجر في مزادات علنية تماماً مثلما يحدث في البر.
جزيرة "قرقنة" يعرفها التونسيون بالقادة النقابيين الذين أنجبتهم، ومنهم فرحات حشاد، مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابية الأكبر في البلاد)، والحبيب عاشور، الذي قاد الاتحاد سنوات طويلة واصطدم مع الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، خلال الإضراب العام الذي دعا له في 26 يناير/ كانون الثاني عام 1978، بالإضافة إلى علي بن رمضان.

وتتبع جزيرة "قرقنة" محافظة صفاقس، وتبعد عن سواحل مدينة صفاقس مسافة 20 كلم، وتمتد من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي على مسافة 35 كلم، ولا يتجاوز عرضها 5 كلم.

الوثيقة الشرفية
ويعود امتلاك البحر بجزيرة "قرقنة" لآلاف السنين، بحسب أستاذ التاريخ بجامعة صفاقس، عبد الحميد الفهري، الذي يقول: "هناك نصوص تعود إلى القرن الثاني الميلادي خلال الوجود الروماني، تتحدث عن الصيد بالحواجز البحرية بجزيرة جربة وجزر الكنايس وجزيرة قرقنة والشابة واللوزة، وهو ما يؤكد وجود التقسيمات والأملاك البحرية في تلك الفترة".

وأضاف: "لدينا إشارات كافية تعود إلى القرن الـ12 والقرنين الـ15 والـ16 تؤكد وقوع هجوم لأهالي البر على جزيرة قرقنة للاستيلاء على الممتلكات البحرية، مما أدى إلى تشكي الأهالي للباي (مراد الثاني، الذي حكم من 1662 إلى 1675) سنة 1662، ليأمر بتحويل ما تعارف عليه أهالي جزيرة قرقنة بالملكية البحرية إلى ملكية مثبتة معترف بها لدى السلطة آنذاك. فأصبحت العائلات منذ ذلك التاريخ تقوم بتسجيل ممتلكاتها البحرية، تماماً مثلما تسجل ممتلكاتها من الأراضي في البر وتسمى (وثيقة الملكية الشرفية)".
وأوضح أن تسمية "الشرفية" أطلقت على تلك الوثيقة باعتبارها "شرفاً للعائلة المالكة".



وأما بخصوص كيفية التعرف على الحدود بين مختلف الممتلكات البحرية التي يبلغ عددها حاليا حوالى 1250 قطعة، فقد أكد الفهري أن التعرف عليها يتم بواسطة "الترش"، وهي عبارة عن ربى صغيرة في البحر تغطيها الأعشاب البحرية، كما يمثل "الواد" (مجرى بحري) نقطة اعتماد لتحديد موقع الأملاك البحرية، هذا بالإضافة إلى الخبرة التي اكتسبها البحارة هناك، بخصوص المراجع المكانية، والتي تمكنهم من التعرف على مختلف الحدود بكل يسر.

صيد الشرافي
وواصل الفهري حديثه قائلا: تستغل الملكيات البحرية لنصب ما اصطلح البحارة على تسميته هناك بـ"الشرافي"، وهي طريقة صيد تقليدية مهددة بالتلاشي، وتتمثل في وضع مسالك ومساحات يحدها من الجانبين سياج من جريد النخل المغروس في البحر بطرق مدروسة، يشرف عليها خبراء في هذا الميدان لهم معرفة دقيقة باتجاه الرياح والأمواج ووجهة الأسماك عند المد والجزر حتى يسهل الإيقاع بها، حيث يتبع السمك جانبي الجريد حتى يدخل حلقة كبيرة تسمى لدى البحارة "الدار"، وتبلغ مساحتها 200 متر مربع، ومن ثم يجد السمك نفسه مجبراً على دخول "البيوت"، ومن ثم إلى "الدراين" (جمع درينة، تصنع من السعف وتمثل وسيلة تقليدية لاصطياد السمك).

ويتطلب بناء الشرفية الواحدة ما بين 6 إلى 8 آلاف وحدة من جريد النخل، وتبلغ كلفة صيانتها السنوية حوالى 5 آلاف دينار (حوالى 2500 دولار)، ويعتبر ارتفاع تكلفة بناء الشرفية وصيانتها بالإضافة إلى تفاقم ظاهرة الصيد العشوائي، الذي تمارسه بواخر كبيرة الحجم، مع عزوف الشباب عن ممارسة هذا النشاط، من العوامل التي أدت إلى تقلص عدد المصائد بـ"الشرافي" وتدني مردوديتها الاقتصادية، بحسب الفهري.

ونتيجة لتفاقم مشاكل الصيد بالشرافي، قال الفهري: "في نهاية القرن الـ20 وقع التخلي نوعاً ما عن بعض الممتلكات البحرية، لتضع بلدية الجزيرة يدها عليها بالتعاون مع السلطات المختصة في وزارة التجهيز، وأصبحت تقوم بتأجير "الشرافي" في مزاد علني، وهو ما يسمى لدى الأهالي بـ"الرمو"، ويمكن أن يبلغ سعر الشرفية الواحدة 20 ألف دينار (حوالى 10 آلاف دولار) وهو الدخل الوحيد تقريباً والكبير لبلدية قرقنة".

إرث وطني
وأردف عبد الحميد الفهري قائلا: "كل معاهد القانون التي تدرّس قانون ملكية البحر تعتمد جزيرة قرقنة نموذجا، لذلك لا يمكن أن نشطب هذا التراث العظيم والكبير".


وقال: "منذ وقت طويل ناضلنا وما زلنا نناضل لأجل الوقوف ضد إزالة هذا الإرث الفريد، وقد أدرجت في هذا الإطار كتاباً بعنوان (الإنسان والبحر) أوجدت فيه حلولا تعوّض إزالة هذه الملكيات، من بينها تأجير الدولة للممتلكات في صورة عدم وجود مستغلين، إضافة إلى ضرورة تدخل السلطات المعنية للحد من إضافة شرافٍ جديدة للحفاظ على البحر وثرواته".

واقترح عدد من الخبراء والمسؤولين في مجال الصيد البحري بعض الحلول، للمحافظة على خاصية "امتلاك البحر"، على غرار إمكانية تطبيق تجربة "بيسكا توريزمو"، التي لاقت نجاحاً كبيراً في كل من إيطاليا وتركيا، وتعتمد هذه الطريقة على إشراك البحارة للسياح في عملية الصيد بالشرافي وهو ما سيؤمن لهم دخلا إضافياً، كما ستساهم هذه الطريقة في إقبال الشباب على الصيد بالشرافي وهو ما سيؤمن تواصلها عبر الأجيال.

ملكيات خاصة
وقال رئيس النيابة الخصوصية ببلدية قرقنة (شيخ المدينة)، فتحي بوزرارة: "الأملاك البحرية تعاني اليوم من بعض الفوضى، باعتبار تفرع الورثة وتشتت الأملاك فيما بينهم، بالإضافة إلى وجود دخلاء يقومون أحياناً بالسطو على أملاك غيرهم، وهو ما يصل أحيانا إلى درجة رفع شكاوى قضائية".

وأضاف بوزرارة: "ما ورد بالرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) سنة 2006، من توجه نحو إيقاف الشرافي، أعتبره أنا أمراً غريباً لأن الشرافي هي ملكيات خاصة وتعتبر مورد رزق للعديد من ساكني الجزيرة"،
متسائلا عما "ستفعله الدولة بالملكيات البحرية في صورة افتكاكها من أصحابها، هي فقط ستحيل أعدادا كبيرة كانوا يقتاتون من الصيد بالشرافي إلى البطالة، بالإضافة إلى أن المياه التي يمارس فيها الصيد بالشرافي تسمى مياهاً ضحلة ولا تصلح لشيء غير هذه الطريقة من الصيد، فما الفائدة من إيقاف العمل بها؟".

واستطرد بوزرارة قائلا إن "تغيير الدولة أماكن الصيد بالشرافي إلى أماكن أخرى لاعتبارات المصلحة العامة، فهذا أمر طبيعي، لكن ما ليس طبيعياً أن تقوم بجرة قلم بفسخ هذا الإرث الفريد والضارب في القدم، والذي بإمكانه، بالإضافة إلى تشغيل اليد العاملة، استقطاب السياح من كل أصقاع العالم".

دلالات