كورونا الضفة الغربية... من معتقلات الاحتلال إلى الحجر المنزلي

كورونا الضفة الغربية... من معتقلات الاحتلال إلى الحجر المنزلي

13 مايو 2020
لحظة وصوله إلى نقطة السيطرة الفلسطينية (حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -

لكورونا شروطه الخاصة، حتى على أسرى فلسطينيين انتظروا طويلاً الاحتفال بحريتهم، إذ أجبرهم الفيروس الجديد على إلغاء كلّ الاحتفالات، والتزام الحجر المنزلي.

لم يحظَ الأسير الفلسطيني المحرر، طارق دولة (47 عاماً) من مدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية المحتلة، الذي تنفس الحرية أخيراً، بما كان يحلم به من استقبال حاشد بعد الإفراج عنه، وغابت أجواء الاستقبال المعهودة للأسرى، ولم يتمكن أشقاء طارق من الاقتراب منه إلا لمترين فقط، إذ نُقل من أمام بوابة معبر الظاهرية، أقصى جنوب الضفة الغربية، على عجل، إلى سيارة الإسعاف، ليخضع لفحص طبي، وأُخذت منه عيّنة تحسباً لإمكانية إصابته بفيروس كورونا الجديد.

كان من المفترض أن تكون حشود الأقارب ورفقاء الدرب تنتظر طارق على أحرّ من الجمر، وما إن يظهر من بعيد حتى يتراكضوا نحوه، ويستقبلوه بالقُبل والأحضان، ثم يرفعوه على أكتافهم إلى سيارة تسير في موكب طويل نحو مسقط رأسه، نابلس التي غاب عنها ثمانية عشر عاماً وراء قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهناك تنطلق الزغاريد والألعاب النارية، وسط هتافات للمشاركين في المهرجان الضخم الذي سيقام على شرف استقباله، أسوة بمن سبقه من المحررين، لكنّ كلّ ذلك لم ينفذ التزاماً بقرار طارق البقاء في الحجر المنزلي.

خلال ساعات معدودة، كان طارق ينعزل من جديد عن محيطه، لكن هذه المرة طوعاً، في منزل عائلته في مدينة نابلس، حيث جرت تهيئة المكان وتوفير كلّ ما يلزمه من طعام وشراب وملابس وأجهزة اتصال، فبقي هناك طوال أربعة عشر يوماً، وفق تعليمات الوقاية الصحية. واقتنص وسط هذه الجلبة، دقائق معدودة ليقرأ الفاتحة على قبر والدته التي فارقت الدنيا قبل نحو عامين، ولم يحظَ بفرصة وداعها. يقول طارق لـ"العربي الجديد" في اتصال هاتفي: "فرحتي لا توصف، فالحرية لا تقدر بثمن، صحيح أنّني كنت أطمح إلى احتضان أبي المسنّ وعائلتي وأصدقائي، وبتنظيم حفل استقبال حاشد، لكنّ الظرف الحالي فرض نفسه بقوة، والمصلحة العامة اقتضت أن أكتفي بوضع يدي على صدري ترحيباً بهم". وعن أصعب لحظة مرت عليه بعد الإفراج عنه، أشار طارق إلى أنّه كان يريد أن ينكب على يدي والده يقبلهما، لكنّه التزاماً بالتعليمات وحفاظاً على صحة أبيه، لوّح له من بعيد.



كانت عائلة طارق قد خططت بدقة بالغة لما جرى، ووضعت الترتيبات اللازمة لاستقبال يليق به، بالاتفاق مع وزارة الصحة الفلسطينية، التي وفرت فريقاً من الطب الوقائي على المعبر، ومع محافظي الخليل: جبرين البكري، ونابلس: إبراهيم رمضان، لاستقباله، في خطوة رمزية.

يقول نائل دولة، شقيق طارق لـ"العربي الجديد": "مرت السنوات ثقيلة، فقدنا الأم وكثيراً من الأقارب، لذلك كنّا نأمل بتعويض أخي عن ذلك، بتنظيم حفل ضخم، لكن، بعد التواصل معه من خلال المحامي، أبدى تجاوباً كبيراً وتفهماً للحالة التي تمرّ بها فلسطين جراء انتشار فيروس كورونا الجديد، إذ وافق على الدخول في العزل الصحي في منزل العائلة". يتابع: "جهزنا الشقة بالكامل، ووضعنا فيها كلّ المستلزمات، واتفقنا على أن نتفقده دوماً، لكن من بعيد وعبر الهاتف، حتى تنتهي مدة العزل وتعود المياه إلى مجاريها، ونعوضه عن السجن والعزل معاً".

في بلدة السيلة الحارثية، غربي جنين، في شمال الضفة، قررت عائلة الأسير، صخر عيسى شواهنة، إلغاء المظاهر الاحتفالية الخاصة باستقبال ابنها، بعدما أمضى من عمره 18 عاماً في سجون الاحتلال، بحسب شقيقه عمران لـ"العربي الجديد". صخر أفرج عنه من سجن النقب، واستقبلته عائلته على معبر الظاهرية جنوب الخليل، وخضع للفحص هناك، ونُقل إلى مسقط رأسه في جنين، وأقيمت له مسيرة سيارات فقط ابتهاجاً بتحرره، فيما دعت العائلة محبي الأسير إلى عدم التجمع حفاظاً على صحتهم، وعدم إطلاق الرصاص التزاماً بما يخدم المصلحة العامة، والتزاماً بتعليمات الجهات المختصة ووزارة الصحة الفلسطينية. وبالرغم من صعوبة هذا القرار على العائلة، لكنّ حرصها على السلامة ألزمها باتخاذ هذا الإجراء، بحسب عمران. يتابع: "كنت أخطط وبقية أشقائي وأقاربي ومحبي صخر وأصدقائه لأن نقيم له احتفالاً فرحاً بالإفراج عنه، لكنّ إجراءات السلامة العامة وتوصيات وزارة الصحة أهم للحفاظ على السلامة العامة. لقد أبلغنا الناس بضرورة عدم الاختلاط وإقامة التجمعات وعدم السلام والتقبيل، فمن صبر 18 عاماً بإمكانه الصبر وحجر نفسه 14 يوماً".

يقبّل يد والدته بعد تحريره (فرانس برس) 

عمران كان من أوائل الذين ساهموا بتشكيل لجنة الطوارئ في بلدته السيلة الحارثية، للحدّ من تفشي فيروس كورونا الجديد. وبالنسبة إليه، إنّ تطبيق هذه الإجراءات على شقيقه وعائلته لمنع التجمعات والاختلاط أمر هام، من أجل أن يكون قدوة للآخرين بدعوتهم إلى الالتزام، فيما يؤكد عمران أنّ ما جرى أمر اضطراري صعب على النفس: "كان أشقائي وعائلتي غير متقبلين لذلك، لكنّهم أخيراً اقتنعوا، وأُلغيَت مظاهر الاستقبال. وما ساعدني أكثر، وعي شقيقي الأسير، وهو ما بدأ ينعكس فعلاً بوعي الأسرى لخطورة ما يجري، الأمر الذي يتطلب تعزيز ما قمنا به لدى الأسرى وأهاليهم في استقبال أبنائهم وضرورة الحجر الصحي، إن لزم الأمر".

وتمثل مبادرات الأسرى وأهاليهم بشأن إلغاء مظاهر الاحتفالات أو حجر أنفسهم، وعياً مهماً في مكافحة فيروس كورونا، وهم يشكلون قدوة، ودليلاً على النضج الفكري والمجتمعي والوعي الذي وصل إليه الأسرى، وإدراكهم خطورة المرحلة، وهو ما جرى مع الأسير طارق دولة، الذي طبق التعليمات بحذافيرها، والتزم إجراءات الوقاية الكاملة، بحسب مسؤولة الإعلام في "نادي الأسير الفلسطيني" أماني السراحنة. تقول لـ"العربي الجديد": "لولا إهمال إدارة سجون الاحتلال وعدم تعاملها بجدية مع ملف كورونا، والخشية من وجود سجانين أو محققين إسرائيليين اختلطوا بأسرى فلسطينيين، لما اضطررنا إلى استقبال الأسرى بهذا الشكل، لكنّنا حرصاء أيضاً على سلامة المجتمع برمته، وملتزمون قرارات الحكومة الفلسطينية بمنع التجمعات، لذلك ناشدنا الأسرى وذويهم الامتناع عن تنظيم أيّ مظهر من مظاهر الاحتفال، والاكتفاء بتلقي التهاني عبر الهاتف". وتشير إلى أنّ تلك الدعوات لاقت آذاناً صاغية من الغالبية العظمى من الأسرى المفرج عنهم وعائلاتهم، باستثناء حالات فردية هنا أو هناك.



تجدر الإشارة إلى أنّ "نادي الأسير الفلسطيني" أطلق أخيراً عريضة تطالب بتدخّل دولي عاجل للإفراج عن أكثر من 1000 أسير في سجون الاحتلال من بين 5000 أسير. والمطلوب الإفراج عنهم هم من المرضى وكبار السن، والأطفال، والأسيرات، والمعتقلين إدارياً، وذلك في ظل انتشار فيروس كورونا الجديد، وتزايد تسجيل الاحتلال الإسرائيلي إصابات بين السجانين.