"ريافة" الملابس... مهنة في طريقها إلى الاندثار في العراق

"ريافة" الملابس... مهنة في طريقها إلى الاندثار في العراق

07 ابريل 2020
حافظ على مهنته (العربي الجديد)
+ الخط -
حال مهن كثيرة، يبدو أن "ريافة" الملابس، أي إصلاحها، في طريقها إلى الاندثار في العراق. فقلّة هم المواطنون الذين ما زالوا يلجأون إلى إصلاح ثيابهم بعدما باتت الخيارات كثيرة

حتى تسعينيات القرن الماضي، كان إصلاح الملابس من المهن التي تشهد إقبالاً كثيراً في العراق على مدار العام خصوصاً في الأعياد. ويُعرف إصلاح الملابس باسم "الريافة"، والعامل بها يسمى "رواف". لكن محال الريافة لم تعد تنتشر في المدن العراقية كما في السابق. وباتت هذه المهنة تشهد انحساراً، وقلّ عدد الزبائن.

الرواف حسن الجنابي يقول إنّه تعلم مهنته حين كان صغيراً لا يتجاوز العاشرة من العمر، مطلع ستينيات القرن الماضي، وهي مهنته الرئيسية التي كان يعتاش منها. ويُبدي الجنابي أسفه على مصير مهنته، ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أنها إلى زوال.

سبب انقراض هذه المهنة، بحسب الجنابي، يرتبط باختلاف الأذواق إضافة إلى الملابس الجاهزة المتاحة لغالبية الناس. "وتتوفر تلك الرخيصة والجميلة وحديثة التصميم والمستوردة، وإن مُزّقت ووجب إصلاحها، تكون كلفة ريافتها أقرب إلى سعر ما هو جديد، على خلاف ما كان في السابق".

ولا يحتاج الروافون إلى محال كبيرة حتى يعملوا فيها، وعرف عن محالهم صغر حجمها، وغالباً ما يؤدون عملهم وهم يجلسون على بساط ويضعون الملابس التي يصلحونها على رفوف قريبة منهم. أما مستلزمات عملهم فهي الإبر المستخدمة في الخياطة والخيوط بأنواعها وألوانها المختلفة.



وكانت محالهم تنتشر وسط الأسواق المكتظة. ونظراً لارتفاع أسعار بيع واستئجار هذه المحال، بالتوازي مع تراجع العمل، اضطر كثيرون إلى ترك هذه المهنة ومحالهم أو بيعها أو استغلالها في مهنة أخرى تدر ربحاً أكبر.

من بين هؤلاء رعد فرحان، الذي غادر محله في سوق مدينة الكاظمية، شمال بغداد، قبل أكثر من عشرة أعوام. يقول لـ"العربي الجديد"، إن قيمة بدل الإيجار ارتفعت كثيراً نظراً لأهمية الأسواق في مدينة الكاظمية، التي تعد من أكثر أسواق البلاد اكتظاظاً، ويزورها آلاف المتبضعين والزوار من مدن عراقية مختلفة.

واختار فرحان، الذي يبلغ من العمر 49 عاماً، أن يزاول عمله في إصلاح الملابس من بيته. يقول: "أكتفي بما لدي من معارف. أنا أعمل في هذه المهنة منذ كنت طفلاً صغيراً. زبائني هم رجال الدين والقرويون وشيوخ القبائل، الذين يرتدون العباءات الرجالية، وغالباً ما تتعرض هذه العباءات إلى فتق ما يوجب إصلاحها".

وتُعدّ أسعار هذه العباءات مرتفعة. ويبلغ سعر تلك الأرخص 250 ألف دينار (نحو 200 دولار)، في حين أن كلفة إصلاح الفتق الصغير لا تتجاوز العشرين ألف دينار (نحو 16 دولاراً)، بحسب فرحان.

وعلى الرغم من خلو غالبية أسواق العراق من محال إصلاح الملابس على عكس ما كان قبل نحو عقدين من الزمن، واحتمال انقراض المهنة، ما زال يمكن الوصول إلى رواف عند الحاجة، وغالباً ما يتعامل روّافون مع خيّاطين في ظلّ الترابط بين المهنتين.



الرواف حميد السامرائي (32 عاماً)، يرتبط بعلاقات تعاون مع عشرات الخياطين في بغداد. كما أن هؤلاء الخياطين يرفعون لافتات داخل محالهم وخارجها يعلنون من خلالها عن إصلاح الملابس. يقول إنه تعلم المهنة من خلال عمله مع روافين وخياطين منذ كان طالباً في المرحلة الثانوية. يضيف لـ"العربي الجديد"، أنه من خلال علاقاته بعدد كبير من الخياطين يحصل على عمل جيد. يتابع: "يتصل بي أصدقائي الخياطين من أجل إصلاح الملابس. أعمل أحياناً داخل محالهم أو أصلحها في بيتي، لأنني لا أملك محلاً خاصاً. وبالنسبة إلي، المحل الخاص يتطلب نفقات مالية وسيكون داخل موقع معين، في حين أن الإصلاح لم يعد مهنة مربحة كما في السابق والعمل فيها يتوقف على فئة ملابس محدودة".

ويقول إن "الملابس التي أصلحها في الغالب لها ذكرى خاصة. هناك ضباط قدامى في الجيش يحرصون على إصلاح بدلات عسكرية خاضوا معارك خلال ارتدائها، أو لها ذكرى عزيزة لديهم. أيضاً، هناك ضباط ما زالوا في الخدمة وبعضهم بعمر الشباب يرسلون بدلاتهم للإصلاح بسبب فتق أو غير ذلك، كونهم ارتدوا هذه البدلة خلال التخرج أو أثناء تكريم وما إلى ذلك".

وليس الضباط وحدهم من يعتزون ببدلاتهم ويحرصون على الاحتفاظ بها سليمة، بل إن كثيرين يحتفظون بملابس لها ذكرى عزيزة لديهم، بحسب السامرائي. يقول: "أصلحت ملابس تخرج لأطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين وفنانين وشخصيات مرموقة في المجتمع، وكان آخر ما أصلحته زي لأستاذة جامعية معروفة".

وعلى الرغم من اختفائها من الأسواق، إلا أن المهنة ما زالت تحظى بسمعة كبيرة لدى الناس، ويعتقد كثيرون أنها لن تزول بسبب الحاجة الماسة لبقائها، وهو ما يؤكده روافون يرون أن إصلاح الملابس جزء من تراث البلد والتراث لن يندثر. من جهة أخرى، يؤكدون أن حاجة الناس لإصلاح الملابس مستمرة على الرغم من قلة هذه الحاجة.

ويحرص معظم العراقيين على الاحتفاظ بتذكارات من أشخاص يحبونهم، مثل الأهل والأشقاء والأقارب والأصدقاء، ومن بينها ملابس قد تكون بلا قيمة مادية كونها قديمة ومحاكة بقماش عادي. وهناك من يحتفظ بها بسبب قيمتها الكبيرة، خصوصاً إذا كانوا متعلقين بأصحابها. ويضطر هؤلاء إلى إصلاحها حين تتمزق.

يقول خضر زين العابدين، الذي يسكن في أحد أحياء بغداد الجنوبية، إنه يحتفظ بثوب لجدته التي لم يرها، فقد توفيت في عام 1970، أي قبل ولادته بعشرة أعوام، لكن والده كان شديد التعلق بهذا الثوب وحريصاً عليه، وهو من القماش الأسود الزهيد الثمن. ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن والده حزن كثيراً بسبب تلف جزء من الثوب بسبب جرذ صغير قرض ملابس عدة، من بينها ثوب الجدة.



يضيف: "ما من أحد يصلح الملابس في منطقة سكني أو في الأسواق القريبة، ما اضطرني للذهاب إلى شارع الرشيد، وسط العاصمة. كنت متيقناً من أن الرواف سيضحك لأنني سأطلب منه إصلاح ثوب قديم لا قيمة له، لكنه لم يفاجأ. وعلمت منه أن كثيرين يصلحون ملابس قديمة يحتفظون بها لأشخاص يحبونهم".

دلالات