أطباء الجزائر... جيش أبيض في مواجهة عدو خفي

أطباء الجزائر... جيش أبيض في مواجهة عدو خفي

05 ابريل 2020
الطواقم الطبية في مقدمة الجميع بمواجهة الفيروس(رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -
بالرغم من الوضع المتهالك للمنظومة الصحية في الجزائر عموماً، فإنّ الأطباء والممرضين والمساعدين، يبذلون كلّ جهودهم لمكافحة فيروس كورونا الجديد، وحصاره، والخروج بأقلّ الأضرار المحتملة من هذه الأزمة

غيرت الأزمة الوبائية من نظرة الجزائريين سلطة وشعباً إلى الأطباء. بات هؤلاء بمختلف اختصاصاتهم "الجيش الأبيض" الذي يؤمّن جبهة الأمن الصحي للبلاد، بعد فترة توتر منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 بينهم وبين السلطة، خصوصاً بعد حادثة الاعتداء الشهيرة للشرطة على بعضهم ممن كانوا يطالبون بحقوق مهنية. اليوم، يبذل الأطباء جهوداً كبيرة، في جميع المستشفيات، على امتداد مختلف ولايات الجزائر، وبواجبات يومية أكبر بكثير من تلك التي اعتادوا عليها.



لا يقتل فيروس كورونا الجديد المرضى الضعفاء فقط، بل الأطباء أيضاً. قبل أيام، فجعت الأسرة الطبية في الجزائر بوفاة أحد أبرز الأطباء إثر انتقال العدوى إليه، من أحد المرضى المقيمين في المستشفى، وهو البروفيسور، سي أحمد مهدي، رئيس مصلحة الجراحة بمستشفى "فرانس فانون" بولاية البليدة، غربي الجزائر. تقول إحدى مساعداته إنّه كان يشرف بشكل مثالي على العمل ولا تفوته كبيرة أو صغيرة، ولا يتأخر عن تقديم المساعدة لأيّ مريض آتٍ من أيّ مكان. كانت مهنة الطب بالنسبة له، بلا حدود، كما تقول المساعدة.

ويعتبر سي أحمد مهدي، أحد أعمدة الجراحة في الجزائر، وبات أول حالة وفاة تصيب السلك الطبي في البلاد بسبب كورونا. رثاه الرئيس عبد المجيد تبون، كما وجه رسالة خاصة إلى الأطباء والممرضين ومجموع العاملين في المستشفيات، إذ يقف أصحاب المآزر البيضاء كخط دفاع وجبهة مواجهة أولى للوباء، بالإضافة إلى التكفل بالمرضى، وسط مخاوف كثيرين منهم من انتقال العدوى إليهم، ونقص المعدات في بعض المستشفيات، وصعوبات التكيف مع الأزمة الوبائية، من دون نسيان انشغالاتهم العائلية. لكنّهم مع كلّ ذلك، يبذلون جهوداً كبرى في هذه الأزمة.



"نحن كأطباء، أمام مسؤولية مجتمعية وإنسانية اليوم، كما أنّه واجب وطني في الأساس"، تقول الطبيبة سعيدة بورنان من مستشفى "بن باديس" بولاية قسنطينة لـ"العربي الجديد". تؤكد الطبيبة سعيدة أنّها كانت في إجازة سنوية، لكن، مع بدء التحذير من تفشي الفيروس ووصوله إلى 40 محافظة جزائرية، اختارت قطع إجازتها والعودة للعمل بمحض إرادتها، على غرار كثير من الأطباء الاختصاصيين والممرضين والموظفين المساعدين في الطواقم الطبية والتمريضية والإسعافية المختلفة، فيما عاد من بين هؤلاء متقاعدون إلى العمل فقط لأنّ "الواجب الإنساني الذي لا حدود له فرض علينا ذلك، والظرف الصعب يمكننا معالجته بأقلّ الأضرار، خصوصاً في صفوف القطاع الطبي الذي يعالج مرضى كورونا ومرضى آخرين لا يمكن إهمالهم" تضيف الطبيبة سعيدة.

أغلب هؤلاء الأطباء يمارسون مهامهم في ظروف صعبة، وهم اليوم في "فم المدفع" كما يقول المثل الجزائري، إذ يتحدون الواقع، بل أكثر من ذلك، فالكلّ يجمع على أنّهم معرضون للعدوى أكثر من غيرهم، بالرغم من كلّ الاحتياطات، وهي نتيجة للوضع السيئ الذي تعيشه المنظومة الصحية المتهالكة في الجزائر، وتجاهل السلطات إصلاح القطاع الصحي وبناء مستشفيات جديدة في البلاد خلال العقد الماضي، بالإضافة إلى عدم تطوير التجهيز والتدريب، فوضع كهذا يجعل الأطباء في رحلة يومية نحو المجهول، كما يقول بعضهم.

من حي درقانة، شرقي العاصمة الجزائرية، اتخذ البروفيسور في الطب، السعيد ملياني، وزوجته طبيبة الأطفال زهية ملياني، قراراً حاسماً بمعالجة المرضى، من مختلف الأعمار وحمايتهم في مستشفى "حسين داي" بقلب العاصمة الجزائرية وتمديد ساعات العمل. أعلنا بذلك عن تأدية الواجب الوطني، في هذه الظروف الصعبة التي تواجه الجزائر على غرار بلدان العالم بسبب وباء كورونا الجديد.

"لا نعلم إن كنا سنعود مساء إلى بيوتنا، فنحن نخرج منها خائفين على أولادنا وأحبابنا، ونصل إلى المستشفى وقلوبنا معلّقة أمام الأرواح البشرية التي أمامنا"، تقول الدكتورة ملياني لـ"العربي الجديد". تتابع أنّه "قاتل خفي، بل ضيف غريب لا يستأذن أحداً، ولا يقدّم دعوة لأحد... هو يفتك بالجميع بلا استثناء؛ الكبير منا والصغير، الغني والفقير، ولا يفرّق بين الطبيب وأيّ مواطن آخر". تضيف أنّ "الأزمة الوبائية لا يمكن تفاديها إلّا بتسيير كادر طبي والعمل على توعية المواطنين، ولا يمكن أن نواجه الفيروس إلّا بالتشخيص الدقيق الذي يأتينا من التحاليل الدقيقة للفيروس، ثم إخضاع المرضى للعلاج وإنقاذهم من الموت قبل كلّ شيء ثمّ من الألم".



تتناوب عشرات من الفرق الطبية على العمل من دون راحة أسبوعية، بهدف مواجهة الانتشار المحتمل للفيروس، والتحكم في أعداد المرضى الذين يصلون إلى المراكز الطبية، وتقديم التحاليل. في المقابل، هناك مرضى آخرون في المستشفيات بمختلف الأمراض، يصعب أيضاً التحكم في علاجاتهم، وهكذا هي يوميات الأطباء، ممن وضعوا على عاتقهم تنفيذ هذه المهمة بكلّ ما تحمله من "مأساة" بحسب البروفيسور ملياني في حديثه إلى "العربي الجديد". يتابع: "نواجه الخطر بصدور ملؤها الألم والأمل في الوقت عينه، نؤمن بالقوة في مواجهة انتشار الوباء في الداخل الجزائري، والاحتياط الوحيد حالياً هو نصح الناس بالبقاء في البيوت وترك المهمة العلمية لمواجهة كورونا للأطباء والاختصاصيين". مع كلّ الهم الطبي، يحرص الأطباء أيضاً على التواصل مع عائلاتهم بكثير من الحيطة والحذر، بل أصبحوا يتجنبون كثيراً الحديث عن الوباء، حتى لا يسببوا لأطفالهم الخوف والهلع، خصوصاً أنّ السلك الطبي هو الأكثر اختلاطاً مع حاملي الفيروس.



في المستشفيات، وأماكن الحجر الصحي العام، لا يمكن أن يمرّ العلاج بسلام من دون إحاطة نفسية من الأطباء الاختصاصيين. منذ خمسة وعشرين يوماً، تتابع الطبيبة النفسية، مريم دباري حالات لمرضى مصابين بفيروس كورونا الجديد، وغيرهم من المشتبه بإصابتهم. تلخص يومياتها في مصحة الأمراض النفسية بمستشفى منطقة باب الوادي بالعاصمة الجزائرية، وتقول لـ"العربي الجديد": "نخرج صباحاً، مقبلين على الموت، نعم إنّه الموت البطيء، المتكرر، الموت المقبل بسرعة والذي يأخذ الأقربين والأحباب، من دون أن نودعهم ونلمسهم حتى. المؤسف في هذا الفيروس أنّه يقضي على الشخص وينقل عدواه إلى المحيطين به. إنّها حالة الهلع الكبيرة وسط العائلات والمواطنين في الأحياء الشعبية، ونحن نحاول أن نقلل من حالة الخوف هذه". تضيف أنّه "ليس من السهل أن تواجه فيروساً، يمكن أن يقتل المصاب به، وينتقل إلى ذويه ومحيطه، وحتى إلى الأطباء. هول الوباء ليس في الموت بل في تلك اللحظات حين يكتشف المريض أنّه نقل العدوى أو انتقلت إليه العدوى، وفي الوقت نفسه يعرف أنه سينقل الفيروس إلى أشخاص آخرين. إنّها حقيقة قاتلة".

انتبهت السلطات إلى الجهد الكبير الذي يقوم به الأطباء في الجزائر، في ظل إمكانيات غير متكافئة مع انتشار الفيروس، وشكاوى كثير من الأطباء والعاملين في القطاع الصحي من نقص الوسائل، خصوصاً بعد وفاة سائق سيارة إسعاف في مستشفى "بوفاريك" بالقرب من العاصمة، انتقل إليه الفيروس من المرضى الذين ينقلهم. وأقرّ الرئيس عبد المجيد تبون في رسالة تشجيع وجهها إلى الأسرة الطبية وأعوان الصحة كافة، بنقص الإمكانيات. وأوضح أنّ الأطباء "يقفون أحياناً بوسائل غير كافية، لكن في الصف الأمامي في حرب بإرادة حديدية، في مواجهة وباء فتاك خبيث". وصف تبون الأطباء بـ"المجاهدين في ميدان الشرف من أجل إنقاذ حياة المواطنين والتخفيف من روع المصابين بالوباء... يا من تعرّضون حياتكم وحياة عائلاتكم في كلّ لحظة على مدار الساعة للخطر من أجل إسعاد الآخرين". وهو ما دفع الرئيس إلى إطلاق مبادرة تشجيع للفريق الطبي وتوقيعه قبل أيام على مرسوم يؤسس لعلاوة تسمى "منحة الخطر" وتتراوح قيمتها بين 50 يورو و200 شهرياً، لصالح الأطباء وعمال الصحة بمختلف درجاتهم، باعتبارهم الفئات التي تقف في الصف الأول لمواجهة الأزمة الوبائية، والأكثر عرضة للإصابة في هذه الأزمة.



على المستوى الشعبي، بات الأطباء في الجزائر، محل تقدير كبير، إذ يقوم المحسنون وبعض الجمعيات الخيرية بالتكفل بوجباتهم الغذائية التي يجري نقلها إليهم في المستشفيات. كذلك، بادر بعض مالكي الفنادق القريبة من المستشفيات إلى وضعها تحت تصرف الأطباء الذين يقيمون في مناطق بعيدة عن أماكن عملهم، فيما بادر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي إلى إطلاق حملات دعم معنوية للأطباء بشعار "الجيش الأبيض".

المساهمون