ورد الجزائر... عودة الألوان والعطور والجمال

ورد الجزائر... عودة الألوان والعطور والجمال

27 ابريل 2020
باقة للبهجة (فايز نور الدين/ فرانس برس)
+ الخط -

قبل أن تستجدّ أزمة كورونا، عادت محالّ بيع الورود إلى الانتشار في المدن الجزائريّة، بعد تراجعها في العقود الثلاثة الأخيرة. وفي ما يأتي رصد للسياقات الاجتماعيّة التي أدّت إلى هذه العودة.

يطلق الجزائريّون أسماء الأزهار على بناتهم، فنجد "وردة" و"ورديّة " و"وريدة" و"زهرة" و"زهور" و"نرجس" بالعربيّة و"روزة" بالأمازيغية. ويزخر الفستان الجزائريّ بالأزهار، لا سيّما الورود، حتّى أنّ الشاعر والمغنّي الأمازيغيّ لونيس آيت منغلّات قال في إحدى أغانيه إنّ الحقول تركت الأرض واستقرّت في فساتين النساء الجزائريات. كذلك فإنّ زراعة الورد وتقطيره ميزتان ترتبطان ببعض المدن الجزائريّة، خصوصاً تلك التي استقبلت تاريخياً النازحين الأندلسيّين بعد سقوط غرناطة في عام 1492، مثل قسنطينة وتلمسان والبليدة التي تُعرف بمدينة الورود. ويعيش كثيرون من سكّانها على تجارة الورد، مثلما يعيش سكّان مدينة بسكرة في مداخل الصحراء على تجارة التمر وسكّان مدينة تيزي وزو في أقصى الشمال على تجارة الزيتون ومشتقّاته.

يقول رئيس الجمعية الجزائريّة للأدب الشعبيّ توفيق ومان لـ"العربي الجديد" إنّ للورد وما يصاحبه من أدوات وطقوس حضوراً بارزاً في المخيال الشعبيّ الجزائريّ، "فنلمس حضوره في القصيدة والأغنية الشعبيّتَين، وفي المناسبات الخاصّة والعامّة، وفي تزيين البيوت والساحات العامّة، وفي بعض أطباق المائدة، وفي تشكيلات الحنّاء والزينة النسويّة". وعن مدى تأثير الثقافة الفرنسيّة التي استقرّت في الجزائر 132 عاماً في نشر ثقافة الورد في الفضاء الجزائري، يوضح ومان أنّ الفرنسيّين وجدوا هذه الثقافة راسخة، "وهم فقط وضعوا لها أطراً، مثل إقامة الحدائق، فأقاموا حديقة الحامّة في الجزائر العاصمة عامَين فقط بعد دخولهم، وسمحوا لبعض المستوطنين بإنشاء المشاتل لتزويد مصانع الورود في فرنسا، وفتح محالّ لبيع الورود في المدن الجزائريّة الكبيرة". ويستدرك ومان أنّ "حركة الفرنسيّين في مجال الورود كانت معزولة عن الجزائريّين، لأنّها مثل حركات كثيرة كانت موجّهة إلى الفرنسيّين لا إلى السكّان المحليّين الذين كانوا يُسمّون في الأدبيّات الاستعماريّة الأهالي".

أشواك القطيعة

مثلما ورث المواطنون الجزائريّون مساكن ومزارع المستوطنين الفرنسيّين، بعد الاستقلال الوطنيّ في عام 1962، ورث بعضهم كذلك محالّ بيع الورود في المدن الكبيرة والصغيرة التي كانوا يسكنونها في الشمال، وزادوا عليها محال جديدة لاحقاً، فصارت تشكّل ظاهرة في الفضاء المدينيّ الجزائريّ. لكنّ ظروفاً وعوامل موضوعيّة أدّت إلى تراجع هذه المحالّ، حتى صار من الصعب العثور على وردة أو باقة ورد يمكن إهداؤها لمريض أو ناجح أو عريس في أيّ مكان، باستثناء المدن الكبرى مثل الجزائر العاصمة ووهران وعنّابة.

عمّي عبد القادر بائع ورد في الجزائر العاصمة يدخل عقده الخامس في هذه المهنة، يتحدّث لـ"العربي الجديد" عن تلك العوامل التّي أدّت إلى تراجع محالّ الورود في الجزائر، موضحاً أنّ "المجزرة" بدأت مع مشروع "الثورة الزراعيّة" الذي أطلقه الرئيس هوّاري بومدين بعد تسلّمه الحكم في عام 1965، إذ أمّم الأراضي الفلاحيّة (الزراعيّة) وحوّل نشاطاتها القديمة إلى نشاطات تدخل في الاستهلاك العام. يقول: "بعينَيّ رأيت مساحات كبيرة كانت مخصّصة للورود والنباتات الزهريّة تتحوّل إلى زراعة القمح والخضروات". ولا يُعفي عمّي عبد القادر سنوات العنف والإرهاب في تسعينيات القرن العشرين من دور أسود في تصحير الحياة الجزائريّة، ويخبر أنّ "المتشدّدين كانوا يرون في بيع الورود تقليداً للغرب الكافر، خصوصاً أنّ الإقبال عليها يتجلّى أكثر في خلال مناسبات يحرّمونها مثل رأس السنة الميلاديّة وأعياد ميلاد الأشخاص وعيد الحبّ وعيد الأمّ، وهكذا كان باعة الورود من ضمن الشرائح التي طاولتها الاغتيالات. وهذا أمر لا ينتبه إليه أحد".



العودة الورديّة

في السنوات الأخيرة، صار بإمكان من يتجوّل في المدن الجزائريّة أن يلاحظ أكثر من محلّ متخصّص في بيع الورود. كذلك يمكن لكلّ من يقف أمام هذه المحالّ أن يلاحظ إقبالاً عليها من مختلف الشرائح. تقول المستثمرة في زراعة الورود وبيعها زهرة عريبي لـ"العربي الجديد" إنّ "الشباب يأتون في طليعة الشرائح التي تبتاع الورود إمّا وردة وردة وإمّا على شكل باقات. والسّبب في رأيها يعود إلى أنّ "الجيل الجديد نشأ في غير الظروف التي أدّت إلى تراجع ثقافة الورد في الشارع الجزائريّ". وتشرح أنّ "الشاب الذي فتح عينَيه على مواقع التواصل الاجتماعيّ فواكب سياقات الحياة المعاصرة، سيتعامل بالضرورة مع اقتناء الورود وإهدائها كمظهر من مظاهر الحياة المعاصرة، ومن تجليات الإنسانيّة والجمال في حياته". سألناها عمّن يفعل ذلك أكثر، الذكور أم الإناث، فأجابت: "لاحظت أنّ الفتيات يفعلن ذلك أكثر، والسّبب يعود إلى عوامل موضوعيّة عدّة منها أنّ البطالة متفشّية أكثر في أوساط الذكور، وكذلك فإنّ الشابة الجزائريّة باتت أكثر مبادرةً إلى إسعاد من تحبّ". وفي هذا السياق، تشير عريبي إلى أنّ "المرأة الجزائريّة، في ظلّ تحسّن واقع السكن في البلاد، تجاوزت مرحلة الإقبال على اقتناء المواعين والأثاث لتجهيز بيتها، إلى مرحلة تزيينه. فلا تخلو شرفة من نباتات زهريّة تلقى العناية من كلّ أفراد الأسرة. والدليل أنّ الأفراد جميعاً يشتركون في اختيارها من المحالّ المتخصّصة في بيعها".

وتعزو عريبي استعادة المدينة الجزائريّة لمحالّ بيع الورود بالإضافة إلى روح الاحتفاء بالجماليات، إلى "جيل جديد من المسؤولين في الإدارات المخوّل لها قانونيّاً منح الرّخص التجاريّة. فهو جيل يملك حسّاً مختلفاً عن الأجيال السابقة". تتابع أنّه "على سبيل المثال، عمدت السلطات الولائيّة في ولاية برج بوعريريج إلى منح محال لنخبة من الراغبين في الاستثمار في الورد والنباتات الزهريّة، الأمر الذي أعفاهم من تكاليف الإيجار. وهو إجراء ينعكس على الأسعار نفسها". وتلفت عريبي إلى أنّ "سعر الوردة الواحدة يتراوح ما بين نصف دولار أميركيّ ودولار واحد، فيما يتزوّد باعة الورد في الجزائر من مشاتل خاصّة بدأت تظهر في أكثر من منطقة. فمدينة البليدة التي تقع على بعد أربعين كيلومتراً إلى الجنوب من الجزائر العاصمة لم تَعد المدينة الوحيدة التي تحتكر الاستثمار في هذا الباب، في ظلّ تسهيلات تقدّمها الحكومة للشباب الراغبين في الحصول على قروض مصرفيّة يخصّصونها في مجال زراعة الورود وبيعها".



جديرون بالاحتفاء

من جهته، يقول الموسيقيّ الخالد شميسة لـ"العربي الجديد" إنّ "مدينة تخلو من محلّ يمكِّن الواحد من أن يكرّم نفسه أو من يحبّ بوردة أو باقة، هي مدينة مطالبة بإعادة حسابها مع تعريف المدينة". ويسأل: "ما معنى أنّنا بتنا في المدينة الجزائريّة نجد مجالات لشراء المخدّرات التي تخرّب العقل، بينما لا نجد محلّاً نشتري منه وروداً؟". ويدعو شميسة إلى "الاحتفاء بكلّ من يُقبل على الاستثمار في هذا المجال، إذ إنّه يمنحنا فرصة لنحتفي بالجمال والعطر والألوان والعذوبة واللطافة في يومياتنا". ويسأل من جهة أخرى: "هل يحقّ لحكومة لا تشجّع محالّ بيع الورود أن تشكو من استفحال ظاهرة العنف في الملاعب والمدارس والفضاءات العامّة؟".

دلالات