الطبيب الفرنسي ديدييه راوولت: تفرّد بهدم النظريات الراسخة

الطبيب الفرنسي ديدييه راوولت: تفرّد بهدم النظريات الراسخة

12 ابريل 2020
له مساهمات علمية رغم الانتقادات (فرانس برس)
+ الخط -

في العام 2019، وحده، تسبّبت حوادث "السكوتر" في فرنسا، بعدد وفيات يفوق ما تسبّبت به، خلال عشرين عاماً، أوبئة مثل إنفلونزا الطيور، وسارس، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسيّة، وإيبولا، وزيكا مجتمعةً! تبدو المعلومة غير منطقيّة، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ عدد الوفيات بحوادث "السكوتر" لم يتجاوز الـ11 خلال 2019. لكن، من يدافع عن هذه المقارنة، في كتاب أصدره قبل أيام ("أوبئة. مخاطر حقيقية وتحذيرات كاذبة"، منشورات "ميشيل لافون")، هو البروفسور الفرنسي ديدييه راوولت، أحد أبرز المختصّين بالأمراض المُعدية في العالم، والذي حوّلته آراؤه حول وباء كورونا، إلى نجم إعلامي.

قد يكون من الحكمة بمكان ما، تجنّب التعامل بطريقة علميّة مع معلومة كهذه، بل اعتبارها، بدلاً من ذلك، مبالغةً بلاغية يُقصد منها إيصال فكرة. أما الفكرة التي يحاول راوولت قولها، فهي مبالغات الباحثين والإعلاميين والسياسيين في الحديث عن الأوبئة، والبون الشاسع الذي يفصلها عن الواقع الطبّي للأمراض المعدية المسبّبة لهذه الأوبئة. وليست "الهستيريا الكونية"، كما يسمّيها، حول وباء كورونا الجديد، إلا تنويعاً على هذه المبالغات.

يردّ البروفسور راوولت على هذه "الهستيريا" ببرودة دم، مقترحاً علاجاً لا يشكّ في نجاحه للقضاء على كورونا، إذا ما استُخدم في وقت مبكّر من الإصابة بالفيروس، وهو مزيج من عقاريّ هيدروكسي كلوروكين (مضاد للملاريا ولمرض الذئبة الحمامية المجموعية) وأزيتروميسين (مضاد حيوي)، مذكرّاً بضرورة تناولهما تحت إشراف طبّي، لما في كلوروكين من سموميّة محتملة للقلب. كما أنّه لا يتردّد في نقد الدولة الفرنسية، ومنظمة الصحة العالمية، لبعدهما عن الواقع كما يقول، ولتعليقهما النجاح في صدّ الوباء، على العثور على لقاحات جديدة يلمّح راوولت إلى أنّ أكبر المستفيدين منها هي اللوبيّات الدوائية.

لكن ديدييه راوولت لم ينتظر وباء كورونا، ليعبّر عن آرائه المثيرة للجدل. إذ يبدو موقفه من الوباء الحالي متسقاً مع سيرته، التي تشكّل مزيجاً مدهشاً من نجاحات معترف بها على أرفع المستويات العلمية، فرنسياً وعالمياً، ومن آراء تقف على النقيض من إجماع أغلبية المختّصين والعلماء.

بخلاف المسار الاجتماعي التقليدي الذي يسلكه أغلب زملائه، بدأ راوولت، المولود في العاصمة السينيغالية داكار (1952)، حياته الدراسية "طالباً كسولاً"، كما يقول، ما دعاه إلى ترك المدرسة، في سن الـ17، للعمل على متن سفينة. سيتقدّم، بعد عامين، لنيل شهادة التعليم الثانوي، في الفرع الأدبي، كطالب حرّ، قبل أن يلتحق بكلية الطب في جامعة مرسيليا. كان يرغب التخصّص كطبيب توليد، لكن معدّله الجيد سمح له بالتخصّص بالأمراض المُعدية.

بدأ نجاحاته، مطلع التسعينيات، باكتشافات حول بكتيريا الريكيتسيا، المتسببة بمرض التيفوس، ليتبعَها، مطلع الألفية، باكتشاف الفيروس المحاكي، الذي أطلق عليه اسمه العلمي (Mimivirus)، كاشفاً عن فصيلة جديدة من الفيروسات، سمّيت بالعملاقة. تسلّم الرجل العديد من المسؤوليات في فرنسا، من بينها رئاسة "اللجنة الوطنية للبحث الطبي والجراحي" (1993-1994) ورئاسة جامعة أكس-مرسيليا (1994-1999)، قبل إنشائه، عام 2011، "المعهد الطبي الجامعي للأمراض المعدية – مرسيليا"، الذي يترأسه، والذي بات اليوم مقصد آلاف الفرنسيين الراغبين بفحص أو علاج أنفسهم من فيروس كورونا. وتكلّلت مسيرته بالإعتراف بجهوده مرّتين، عبر تلّقيه جائزتين مهمتين، أولاهما الجائزة الكبرى لـ"المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي" عن مجمل أعماله حول مسبّبات الأمراض ولاكتشافه الفيروسات العملاقة (2010)، وثانيهما الجائزة العلمية لـ"معهد فرنسا"، التي نالها عن "دراسته لمجموع ميكروبات الجهاز الهضمي وتطور نشاطها المضاد حيوياً" (2015).



في الوقت نفسه، وقّع طبيب أمراض العدوى عدداً من الكتب البعيدة عن هذه الأجواء الأكاديمية، والتي مارس فيها "متعته الكبرى"، كما يقول، المتمثّلة بـ"تهديم النظريات الراسخة". ومن مؤلفاته "تجاوز داروين" (2010)، الذي يختصر عنوانُه محتواه، و"لنتوقّف عن الخوف" (2016)، الذي يتوقف فيه عند مواضيع عدة، ناقداً سياسة السلطات الأوروبية في تخويف الناس من المهاجرين ومن التغيّر المناخي وغيرهما من "الفزاعات"، مفنّداً الحجج التي تقوم عليها نظريات الخوف، وداعياً إلى تقبّل التغيّر، بوصفه حقيقةً تحكم الكائنات الحيّة والنظام البيئي الذي تعيش فيه.

في "الحقيقة حول اللّقاحات" (2018)، يناقش راوولت فعالية العديد من اللّقاحات، وينقد تحوّلها من فعل طبي إلى "فعل سياسي" تحتكره السلطة، وتفرضه على المواطنين دون مشاركتهم القرار والمعرفة اللاّزمين. أما كتابه "العلاج أفضل من التنبؤ" (2017)، فيهاجم فيه الدراسات النموذجية للأمراض والأوبئة، القائمة على أساس سيناريوهات رياضية مبالغ فيها، غالباً ما تكون شديدة البعد عن واقع الوباء، وغالباً ما تتسبّب بهلع كبير بين الناس.

بدلاً من هذه "التهويمات الرياضية"، يقترح راوولت التصرف "بعقلانية" مع الأوبئة، وعدم تضخيمها لإخفاء العجز أو لتبرير التأخّر في إيقافها. وهو يدعو إلى اللّجوء إلى الصيدلية المتاحة، التي تضم آلاف العقارات التي وُصفت "مليارات المرات" للمرضى، وقسم كبير من هذه العقارات بات ملكاً للحق العام، فلمَ لا نستفيد منها، كما يقول، لصدّ وباء مثل كورونا، دون انتظار لقاح قد لا يأتي قبل عام؟ كما يدعو راوولت، إلى إجراء أكبر قدر ممكن من الفحوصات، كسياسة أولى لمواجهة الوباء، من شأنها فصل المرضى عن غير المصابين، ومعالجتهم في أسرع وقت، قبل تمكّن الفيروس من جسدهم واستحالة شفائهم.

لكن الحكومة الفرنسية، ومثلها البريطانية والأميركية، لم تتّخذ مقاربةً كمقاربة راوولت لمواجهة الوباء، بل بنت سياستها على نقيضها تماماً، أي على أساس الدراسات النموذجية الحسابيّة، التي ينقدها راوولت، والتي تتنبّأ بسيناريوهات كارثية، مقترحةً عزل السكان لتجنب أعداد كبيرة من الضحايا، في انتظار توفّر لقاح. كما لم تستطع هذه الحكومات، حتى الآن، إجراء فحوصات بشكل واسع، بعكس ما فعلت كوريا الجنوبية أو ما تقوم به، وإن على مستوى أقلّ، الحكومة الألمانية.

وتبدو آراء الطبيب راوولت، في وسائل الإعلام، عندما توضع إلى جانب الدراسات شديدة التفصيل، التي يضعها باحثو النمذجة، وإلى جانب الحذر الذي يبديه أغلب العلماء البارزين في فرنسا تجاه العلاجات المتوفّرة، وكأنها صرخات متعجّلة لرجل غير مسؤول وقليل الصرامة. وهذه هي الصورة التي يأخذها راوولت لدى ناقديه وجمهورهم. فهم غالباً ما يشيرون إلى غياب الدقّة العلميّة في نتائج أبحاثه. وهذا ما جرى مع تجربته الأخيرة، التي قدّم فيها علاجاً بعقاري هيدروكسي كلوروكين وأزيتروميسين لـ1061 مصاباً بكورونا، والتي أطلع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على نتائجها قبل أيام؛ حيث لم تكد تخرج نسبة نجاحها العالية (91.7%) إلى وسائل الإعلام، حتى انهالت الانتقادات على المنهج الذي أجريت على أساسه هذه التجربة، وعلى عدم جديّته.

أما البروفسور راوولت، الذي وضعته مجلة "طبيعة" المرموقة، عام 2008، بين أبرز 10 باحثين فرنسيين على مستوى النشر العلمي والاقتباس، والذي صُنّف عام 2014، من قبل "ويب أوف ساينس"، كأكثر عالِم أحياء دقيقة يجري اقتباس أعماله في أوروبا، فيدافع عن خياراته، في فيديو نشره المستشفى، الذي يديره، قبل أيام على صفحته على "يوتيوب"، بالقول إنه، كطبيب، يتعامل مع مرضى لا بدّ من علاجهم كي يبقوا على قيد الحياة، لا مع "أغراض للبحث العلمي" يمكنها أن تنتظر. بالنسبة إليه، العلاج أولاً، ومن بعده يأتي وقت البحث واستخلاص العبر. وهو ينقد ناقديه بالقول إنّهم إما أطباء توقّفوا عن ممارسة المهنة وابتعدوا عن واقعها تماماً، أو باحثون يعملون في مكاتب ولم يسبق لهم أن عرفوا ما يعنيه التعامل مع فيروس أو وباء على أرض الواقع.

المساهمون