مناعة القطيع... بريطانيا تنقل عدوى كورونا إلى سكانها

مناعة القطيع... بريطانيا تنقل عدوى كورونا إلى سكانها

18 مارس 2020
لندن في زمن كورونا الجديد (جاستن سيترفيلد/ Getty)
+ الخط -

بينما أقرّت دول العالم بمعظمها سياسات تدعم عزل المواطنين في مواجهة وباء كورونا الجديد خرجت الحكومة البريطانية بموقف مختلف يعتمد ما يعرف باسم خطة "مناعة القطيع" لمواجهة انتشار الفيروس

أعلنت دول عدة في أوروبا وخارجها إجراءات مختلفة لوقف انتشار وباء كورونا الجديد، وذلك من خلال منع التجمّعات وإغلاق المدارس والجامعات، ليصل الأمر إلى حدّ الإعلان عن حالة الطوارئ في بعضها. لكنّ الحكومة البريطانية ترفض اللحاق بركب الإجراءات الدولية، وهو ما دعا منتقديها إلى القول إنّها تقف مكتوفة اليدين في واحدة من أكبر أزمات القرن الحادي والعشرين.

وكان رئيس الحكومة، بوريس جونسون، قد أعلن، أول من أمس الإثنين، عن إجراء مؤتمرات صحافية يومية في مسعى لمزيد من الشفافية في طريقة تعامل الحكومة البريطانية مع الأزمة التي خلّفها انتشار الوباء. وكانت حكومته قد تعرضت لانتقادات شديدة من قبل مختصي الصحة ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى المعارضة السياسية، بسبب طريقة تعاملها مع الأزمة حتى الآن. بينما ترأس جونسون الإثنين أيضاً اجتماع "خلية كوبرا للأزمات" لدراسة الخطوات المقبلة مع توقع اتساع انتشار الوباء في بريطانيا.

وتسعى حكومة جونسون لإظهار نفسها في صورة المسيطر على الوضع، إذ كان كبير مستشاري جونسون في مجال العلوم، باتريك فالانس، قد خرج بتصريحات، يوم الجمعة الماضي، يدافع فيها عن الاستراتيجية المتساهلة للحكومة البريطانية، ليقول إنّها جزء من مكافحة وباء كورونا الجديد على المدى الطويل، وذلك من خلال تطوير خطة معروفة باسم "مناعة القطيع". وهذه الخطة ليست حديثة أو غير مألوفة، بل إنّها عادة ما تطبق من خلال حملات اللقاحات، إذ يجرى تعريض قسم كبير من السكان لنسخة ضعيفة من العامل المرضي، سواء كان جرثومة أو فيروساً، لبناء مناعة ضد المرض. ويساهم ذلك أيضاً في الحدّ من انتشار عدوى العامل المرضي، وهو ما يخفّض أيضاً من احتمال إصابة من لم يحصلوا على اللقاح. وقد تحدث هذه المناعة أيضاً في حال انتشار الأوبئة، إذ تصاب الأغلبية العظمى من السكان بالعامل المرضي وتطور مناعة ضده، وبالتالي يتقلص مدى انتشاره.




لكنّ الحكومة البريطانية تتعرّض لحملة انتقادات شديدة بسبب طريقة تعاملها مع انتشار الوباء، خصوصاً منذ تصريحات فالانس. وكان نحو 200 من العلماء في مختلف المجالات قد عبّروا عن قلقهم من الاستراتيجية الحكومية في رسالة مفتوحة. فالخطة البريطانية الحالية تعتمد على انتقال عدوى الوباء إلى 60 في المائة من سكان بريطانيا، وتطويرهم مناعة ضده. وتشكك رسالة المختصين في جدوى هذه المقاربة، إذ إنّ المشكلة الرئيسية فيها تكمن في عدم توفر أيّ دليل علمي على إمكانية تطوير مناعة دائمة ضد الفيروس، مع بروز تقارير عن إصابات متجددة بكورونا الجديد، لمرضى تعافوا منه. ودعا خبراء صحة وأطباء عديدون في بريطانيا الحكومة للعدول عن استراتيجيتها الحالية، وطالبوها بعدم إدارة ظهرها لإجراءات ناجحة اتبعتها دول أخرى للحدّ من انتشار المرض والوفيات.

وكانت حكومة جونسون قد أعلنت، يوم الخميس الماضي، بعد اجتماع "خلية كوبرا للطوارئ"، أنّ المستشفيات البريطانية ستستقبل الحالات الحرجة فقط، ودعت جميع من أبدوا أعراضاً مماثلة لكورونا الجديد إلى العزل الذاتي لسبعة أيام، من دون التواصل مع الخدمات الصحية الوطنية، والتي تعاني من وطأة أزمة مزمنة في التمويل. وفي مقاربة ثلاثية، أوصى جونسون، بعد اجتماع أول من أمس الإثنين، جميع أفراد العائلة بالبقاء في منازلهم لمدة 14 يوماً في حال ظهور أعراض المرض على واحد منهم مثل السعال أو الحمى. أما التوصية الثانية فهي وقف التواصل الاجتماعي لحماية السكان الذين تزيد أعمارهم على 70 عاماً والنساء الحوامل والأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية. والتوصية الثالثة هي منع التجمعات مثل النشاطات الرياضية والفعاليات ابتداء من أمس الثلاثاء، على الرغم من أنّ خطر انتقال المرض بين الحشود كبيرة العدد "منخفض نسبياً"، بحسب جونسون.



وصول عدد الوفيات في بريطانيا إلى 53 وتجاوز الإصابات المعلن عنها 1600 أصابا كثيرين داخل البلاد وخارجها بالقلق من أن تكون "مناعة القطيع" تغطية على فشل حكومة جونسون في التعامل مع انتشار الوباء. كذلك، فإنّ الاعتماد على مقاربة تتحكم بسرعة انتشار الوباء، حتى يصيب 60 في المائة من السكان، لا يخلو من احتمال ارتفاع عدد الوفيات. ووفقاً للبيانات الدولية المتاحة، فإنّ معظم الوفيات تكون بين المجموعات ذات المناعة الضعيفة، مثل المسنين، أو من يعانون من أمراض. وتعدّ التضحية بالفئات الضعيفة صحياً أمراً معيباً أخلاقياً، لكنّها أيضاً تمثل تمييزاً ضدهم بحسب القانون.

بدورها، كشفت صحيفة "ذا غارديان" عن اطلاعها على وثيقة حكومية تتوقع إصابة 80 في المائة من البريطانيين بالوباء، واستمرار انتشاره حتى ربيع عام 2021. وتقول الوثيقة الصادرة عن الخدمات الصحية الوطنية إن المستشفيات البريطانية تتوقع استضافة نحو 8 ملايين شخص في هذه الفترة من المصابين. وكان كريس ويتي، كبير مستشاري الحكومة في القطاع الصحي، قد أشار سابقاً إلى أنّ الحكومة تعدّ خططاً للتعامل مع أسوأ الاحتمالات، وفيها يصاب 4 من كلّ 5 بريطانيين بكورونا الجديد، لكنّ مسار انتشار المرض الفعلي قد يكون أقل من ذلك بكثير. ويطرح تقرير "ذا غارديان" تساؤلات عن مدى قدرة بريطانيا على العمل بصورة سليمة، محذراً من أنّ "من المقدر أن يعاني نحو 10 في المائة من سكان بريطانيا من السعال خلال أشهر ذروة انتشار كورونا الجديد".




ودفعت ردود الفعل المنتقدة للنهج الحكومي بوزير الصحة مات هانكوك إلى نفي أن تكون "مناعة القطيع" سياسة حكومية. ودعا هانكوك، مساء الأحد الماضي، جميع المسنين، ممن تجاوزوا 70 عاماً، إلى عزل أنفسهم لفترة قد تصل إلى 4 أشهر. وأدى هذا التناقض في التصريحات الحكومية إلى صبّ الزيت على نار الانتقادات الموجهة لاستراتيجيتها في التعامل مع وباء كورونا الجديد. فأهمية العزل الذاتي تأتي من التزام الجميع به، ونجاعة "مناعة القطيع" تنبع من تعرض الجميع للفيروس.

لكنّ المختص في علم النفس، ديفيد هالبرن، مدير "فريق البصيرة السلوكية" الذي يوفر الاستشارات الحكومية، أيّد خطتها، إذ قال لـ"بي بي سي": "ستكون هناك نقطة - في حال انتشر الوباء ونما، كما نعتقد أنّه سيفعل - سترغب فيها في التقوقع، وسترغب حينها بحماية المجموعات المعرضة للخطر، كي لا تلتقط العدوى، وفي الوقت الذي يخرجون به من العزل الذاتي، يكون بقية السكان قد حققوا مناعة القطيع". وأبدى مارتن هيبرد، المختص في الأمراض المعدية، في "كلية لندن للصحة وطب المناطق الحارة" في المقابل، تحفظاً، بقوله: "أقلق من هذه الخطط التي تعتمد على إصابة هذه النسبة من السكان... المطلوب استراتيجية بديلة عبر احتواء الوباء لفترة أطول بما يكفي لظهور علاج ما. ويبدو أنّ هذه استراتيجية دول مثل سنغافورة". بدوره، قال أنتوني كوستيللو، المدير العام السابق لمنظمة الصحة العالمية، إنّ الحكومة البريطانية بعيدة عن نهج الدول الأخرى في سعيها وراء "مناعة القطيع" كإجابة لانتشار وباء كورونا الجديد. ورأى كوستيللو، في تغريدات على "تويتر"، أنّ الاستراتيجية البريطانية قد تعارض أيضاً سياسة منظمة الصحة العالمية، التي تسعى لاحتواء الوباء من خلال تعقب الإصابات كافة. وأشار إلى أنّ انتقال الدول من سياسة الاحتواء إلى تخفيف التبعات أمر خاطئ وخطير. وأضاف: "هل نحصل على مناعة قطيع قوية من وباء كورونا الجديد، أم هل هو مثل الإنفلونزا، إذ تخرج كلّ عام سلالات جديدة نحتاج بسببها إلى تكرار اللقاحات؟ ما زال أمامنا كثير لنتعلمه عن ردود الفعل المناعية لكورونا الجديد". لكنّ هانكوك نفى أن تكون المعايير البريطانية مختلفة عن نظيراتها في دول أخرى، وقال: "على سبيل المثال، مقاربتنا شبيهة جداً بتلك التي في ألمانيا وأستراليا وغيرهما".



تسعى الحكومة البريطانية إلى التخفيف من وطأة العبء الصحي على المستشفيات، إذ طلب بوريس جونسون من المصنّعين البريطانيين التحول لإنتاج أجهزة التنفس التي تحتاج إليها مستشفيات البلاد، والتي تعد أساسية في العناية بالمصابين بكورونا الجديد. وأجرى جونسون اتصالات مع قادة الدول السبع لتنسيق جهودها في محاربة انتشار الوباء والتخفيف من الوطأة الاقتصادية المرافقة. وتشمل الموجزات الصحافية اليومية للحكومة توجيهات للجمهور حول كيفية الوقاية من العدوى. وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للأداء الحكومي، فإنّ 53 في المائة من البريطانيين تثق بقدرتها على التعامل مع انتشار الوباء، وفقاً لاستطلاع رأي أجري خلال عطلة نهاية الأسبوع.




وقد تتجه الحكومة البريطانية، مع اتساع رقعة انتشار الوباء، إلى إغلاق المطاعم والحانات والمتاجر غير الأساسية كافة. وقد تتجاوز هذه الإجراءات المعايير الأولية في خطة الحكومة الأساسية للتعامل مع وباء كورونا الجديد. لكنّ دولاً أخرى قريبة من بريطانيا، مثل فرنسا، قد نحت هذا النحو، ولا ينتظر أن تختلف بريطانيا عنها في حال تطور الأزمة، إذ إنّ هانكوك كان قد دعا جميع المسنين ممن تجاوزوا 70 عاماً لالتزام منازلهم لمدة أربعة أشهر لحماية أنفسهم من المرض.

المساهمون