رحيل

رحيل

07 فبراير 2020
... لروحها حقول من عبّاد الشمس (برندان سميالوفسكي/فرانس برس)
+ الخط -
"الحياة لم تَعُد تُحتمَل. سامحوني". بكلمات مقتضبة برّرت داليدا رحيلها، هي التي حاولت فرض شروطها على موت لطالما انتظرته... موت لطالما بحثت عنه. في أغنيتها الشهيرة "مورير سور سين"، دعت ذلك الموت ليلاقيها على خشبة المسرح، إلا أنّه تخلّف عن الموعد الذي ضربته له. وبعد نحو أربعة أعوام، استدرجته إلى منزلها، لتخمد وجعاً تمكّن منها طويلاً، بعيداً عن أضواء المسرح. رغم ذلك، لم ترحل في الظلّ، وكان لها ما أرادته دوماً. فحياتها التي ما عادت احتملتها، لطالما كانت تحت الأضواء أينما حلّت.

في ثمانينيّات القرن الماضي، بالعاصمة الفرنسيّة باريس، أنهت داليدا أعوامها الأربعة والخمسين. وبعد أكثر من ثلاثة عقود، بالعاصمة اللبنانيّة بيروت، أخمدت امرأة أربعينيّة وجعاً تلبّسها لسنوات وسنوات، على وقع "مورير سور سين"، فيما دوّنت "فإنّ أسباب الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة". هي لم تعثر على عبارة تختصر ما أرادت التعبير عنه أفضل ممّا نظمه محمود درويش في قصيدته "لا أعرف الشخص الغريب". إلى جانب "وجع الحياة"، لطالما وجدت نفسها "شخصاً غريباً"، حتّى في خلواتها مع نفسها. في كلماتها المقتضبة التي خلّفتها وراءها، طلبت السماح كما فعلت داليدا. أمر لا مفرّ منه، مراعاة لمشاعر كثيرين أو ربّما قلّة. لطالما حرصت على مداراة من حولها. لو لم تفعل، لربّما كانت تمضي في حياتها.

في الظلّ، رحلت المرأة الأربعينيّة، وقد ستر الأقربون سبب وفاتها. هي لم تكن داليدا. في مماتها كما في حياتها، عجزت عن التعبير والإفصاح عمّا في داخلها. ما ارتكبته جريمة لا تُغتفَر وفضيحة حاولت العائلة لفلفتها. ما وقع خطيئة في نظر الأقربين كما في نظر الدين والمجتمع، والتسترّ عن الحقيقة يضمن مواراتها في الثرى بكرامة والصلاة عليها، لعلّها تحظى بالرحمة وبالصفح عن إثمها.

قبل أن تُقدم على وضع حدّ لوجعها، دوّنت مرّات ومرّات رسالة وداع تفصّل فيها دوافعها. لكنّها في كلّ مرّة، تخلّصت ممّا خطّته خشية على مشاعر من حولها. لو لم تهدر حياتها وهي تراعي أحاسيس آخرين وتبحث عن تبريرات لهم، لما كانت أقدمت على "فعلتها الشنيعة" تلك. لو تجرّأت في يوم وواجهت مَن آلمها، لما انتهى بها الأمر على تلك الحال. لا شكّ في أنّ "تلك الحال" أفضل من الموت يوميّاً ألف مرّة ومرّة، فيما هي تشهد على هلاكها. لو تشجّعت في يوم على اختيار لون أو طعام أو هواية مفضّلة لها، لما كانت شهدت على تسرّب روحها شيئاً فشيئاً حتى الانهيار الأخير.




أخيراً، حسمت أمرها وأقدمت على الرحيل. لم تعد قادرة على رسم ابتسامة أخرى ولا على الخوض في حوار جديد ولا على الإتيان بتضحية إضافيّة. الوجع تعاظم لدرجة فاقت قدرتها على التذمّر والتصريح بإنهاك يجتاحها. لروحها سلامٌ وحقولٌ من عبّاد الشمس.

المساهمون