الأوروبيون مقابل المهاجرين... مخاوف ديمغرافية في ألمانيا

الأوروبيون مقابل المهاجرين... مخاوف ديمغرافية في ألمانيا ودول القارة العجوز

04 سبتمبر 2019
الأجيال الجديدة هاجس اليمين (أوي كرافت/ الأناضول)
+ الخط -

شهدت مجتمعات أوروبا، على مدى السنوات الأربع الماضية، سجالاً مستمراً حول التركيبة السكانية للقارة العجوز، خصوصاً في شطريها الغربي والشمالي، ليترافق مع قلق حول تناقص "الأوروبيين البيض" وزيادة المهاجرين

في سياق السجال الأوروبي حول زيادة أعداد السكان من غير غربيي المنشأ، كالآسيويين والأفارقة، بمن فيهم العرب خصوصاً المسلمين، تبرز الحالة الألمانية كأحد أهم الأمثلة على تلك المتغيرات، والتحذيرات التي تطاول عموم دول القارة التي تتزايد فيها نسب المسلمين، مع تهويل قومي متشدد أحياناً. بالنسبة لهؤلاء القلقين، يعتبر مجتمع ألمانيا، على سبيل المثال، نموذجاً لهذه التحولات التي لم يتوقف التعاطي معها على مدى السنوات القليلة الماضية، خصوصاً بعد تدفق ما يربو على مليون لاجئ في 2015، ومواجهة سياسيي البلاد مشكلة في التمكن من الدمج السريع لهؤلاء. ويجد اليمين المتشدد، كحزب البديل لأجل ألمانيا، وغيره من الحركات القومية المتطرفة، فرصة لبثّ الخوف والشكوك حول مستقبل البلاد كما عرفته الأجيال الألمانية، مع رفض تام لفكرة مجتمع متعدد الثقافات والأعراق.




تشير أرقام مكتب الإحصاء الفدرالي الألماني، إلى أنّ العام 2017 سجل زيادة في أعداد السكان من خلفيات مهاجرة بنحو 4.4 في المائة، ليصل مجموع هؤلاء إلى أكثر من 19.3 مليون إنسان. وفي العموم، وصلت نسبة المصنفين بجذور غير ألمانية إلى نحو 23.6 مليوناً حتى أغسطس/ آب 2018.

ارتفع منذ عام 2015 عدد سكان ألمانيا من نحو 80 مليون نسمة تقريباً إلى نحو 81.8 مليوناً عام 2017. وربما استبشر البعض خيراً، مع تدفق موجات الهجرة واللجوء، بإمكانية كسر منحنى تناقص سكان ألمانيا أو تحويله نحو الإيجابية، لولا إثارة سجالات تضخمت حتى وصلت، كما سنرى إلى زيادة في موجات التعصب القومي. وبالنظر إلى ما حمله جدول نسبة الزيادات السكانية في ألمانيا منذ تسعينيات القرن الماضي، في أعقاب وحدة شطري البلاد، عقب سقوط جدار برلين، يبدو واضحاً تراجع معدل الخصوبة الكلي (عدد المواليد مقسوماً على عدد النساء في سن الإنجاب مضروباً بألف) أيضاً إلى ما دون مستوى 1.4 طفل في الألف لدى الألمانيات. وانخفض السكان من نحو 82 مليون نسمة في 2005 إلى نحو 79.3 مليوناً في 2011.

شعوب ولغات
التقارير الألمانية تشير إلى استمرار تراجع الألمان الأصليين (عرقياً). وفي السياق، يشار إلى أنّ البلد شهد منذ السبعينيات اختلالاً في التوازن بين نسب الوفيات والولادات، مع ملاحظة تقدم في نسب المعمّرين، لأسباب عديدة، لعلّ أهمها تقدم قطاع الرعاية والصحة في المجتمع الألماني. وإلى جانب ذلك، شهدت ألمانيا زيادة في نسبة المواطنين/ المقيمين/ من أصول أو جذور غير ألمانية عرقياً/ منذ 2005 بنحو 18 في المائة، أي من 14 مليوناً في ذلك العام إلى 19 مليوناً حتى 2017. ففي الأعوام ما بين 2014 و2017، أي في 3 سنوات، زاد هؤلاء من نحو 16 مليوناً إلى 19.3 مليون نسمة تحديداً.

ترحيب بالمهاجرين (فرانس برس) 












في بعض المناطق الألمانية، بحسب ما ذهبت إليه تقارير مختلفة، راجعتها "العربي الجديد"، خصوصاً الصادرة عن مركز "ستاتيستا" الألماني، فإنّ نسبة 80 في المائة من الولادات الجديدة كانت من جذور مهاجرة، في مناطق تتبع ولاية هسن، بمعدل مواليد (عدد المواليد الأحياء مقسوماً على عدد السكان في منتصف العام مضروباً بألف) يصل إلى 12 في الألف تقريباً. وهو ما اعتبرته التقارير نموذجاً للزيادات منذ 2015، في حين شهدت مناطق ألمانية عديدة تراجعاً في معدل المواليد. وبالرغم من أنّ لايبزيغ وميونخ شهدتا نسبة قريبة من أوفنباخ وماين، إلى الشرق من فرانكفورت في هسن، بمعدل11.77 في الألف، فالأرقام تشير إلى أنّ بعض مناطق ألمانيا تراجع فيها معدل المواليد إلى نحو 6 في الألف، كما هي الحال في سكسونيا السفلى، في شمال غرب البلاد، والتي تشمل مدناً شهيرة مثل بريمن وهانوفر وأولدينبورغ، وإلى الشرق منها تقع هامبورغ.

يشكل الأتراك، أو ذوو الأصول التركية، في ألمانيا، ما نسبته 14 في المائة من مجموع مواطني/ مقيمي الخلفية المهاجرة، بنحو 3 ملايين عام 2017. وبالرغم من أنّ البولنديين والروس يشكلون معاً ما نسبته 18 في المائة، أي نحو 3.5 ملايين، فالتركيز ينصبّ على من يصنفون "ذوي الأصول غير الأوروبية" في ما يخص القلق من الزيادات، والذي يصدر خصوصاً من جهات اليمين واليمين المتطرف. ولاحظت دراسات ألمانية دقيقة شملت 24 مليون أسرة العام الماضي، أنّ 2.5 مليون أسرة على الأراضي الألمانية تستخدم لغة أجنبية في تعاملاتها وعلاقتها الأسرية. وكانت اللغات الأكثر شيوعاً: التركية، بنسبة 17 في المائة، والروسية 15 في المائة، والبولندية 8 في المائة، فيما حلت العربية رابعة بنسبة 7 في المائة.




في نتائج أرقام العام الجاري، 2019، يبدو أنّ الوضع مستمر على ما كان عليه من تغير عام 2015، وإن بزيادة هذه المرة وفقاً لـ"مكتب الإحصاء الألماني". وذكرت صحيفة "دي فيلت" يوم 21 أغسطس/ آب الماضي، في تقرير شامل عن متغيرات التركيبة السكانية لألمانيا، أنّ نسبة من هم من جذور مهاجرة من سكان البلاد تجاوزت ربع السكان، وبنسبة مئوية وصلت إلى 25.5 في المائة، وهو ما عدّه معدو التقرير، مؤشراً على تراجع أو انخفاض متسارع للسكان الألمان الأصليين، خصوصاً في صفوف الأجيال الشابة. فالتطور الموصوف بالمتسارع يأخذ بعين الاعتبار تطورات حدثت منذ عام 2005، إذ لم تكن النسبة أكثر من 14 في المائة تقريباً، لتزداد منذ عام 2011، حتى الربع الثاني من 2019، لتصل إلى أكثر من ربع السكان، وبنحو 21 مليون إنسان من جذور غير ألمانية، أو كما تصف الإحصاءات: "ممن ولدوا من أبوين لا يحمل واحد منهما على الأقل جنسية ألمانية". وأشار المكتب إلى أنّ الرقم يمثل زيادة بـ2.5 في المائة عن 2017. وأشار مكتب الإحصاء الألماني الشهر الماضي، إلى أنّ واحداً من كلّ أربعة من السكان في 2018 كان من أصول مهاجرة، ونحو خمسة ملايين ونصف مليون منهم اكتسبوا الجنسية الألمانية بالولادة أو بالتبني. ويشير التقرير إلى أنّ نحو 13.5 مليون إنسان مقيم ولدوا خارج البلاد، ويقول 15 في المائة ممن أجريت عليهم الدراسات إنّهم يقيمون في البلاد بصفتهم "لاجئين سياسيين". أما الآتون من الشرق الأوسط فإنّ "خلفية حضورهم إلى ألمانيا يعللها 47 في المائة بالاضطهاد في بلدانهم الأصلية والفرار لطلب اللجوء".

مجتمع الشيخوخة
على صعيد سوق العمل، أشار المكتب الفدرالي للإحصاء في يونيو/ حزيران الماضي، إلى أنّه في حين كان سوق العمل في ألمانيا عام 2018 يضمّ ما يصل إلى 51.8 مليون إنسان، بين 20 و66 سنة، فإنه في عام 2035 سيتقلص بما بين 4 و6 ملايين. وبالنظر إلى التطورات المرتقبة يرى باحثو المكتب أنّ ألمانيا مستمرة في اكتساب مزيد من كبار السن. فقد ازداد من هم فوق 67 عاماً ما بين عامي 1990 و2018، من نحو 10 ملايين إلى نحو 16 مليوناً. ويرى معدو الدراسة أنّ الزيادة ستصل إلى نحو 21 مليوناً عام 2039، وذلك من أصل حوالي 79 مليون نسمة. ويضاف إلى مجتمع الشيخوخة هذا أنّ من هم فوق 80 عاماً سيزدادون من 5.4 ملايين عام 2018 إلى 6.2 ملايين في 2022، وسيستمر الرقم في الارتفاع حتى 2030 ليصل إلى ما بين 9 ملايين و10 عام 2050، بحسب تطور الرعاية الصحية والاجتماعية حتى ذلك الوقت. وإذا أضفنا تلك الأرقام، إلى من هم فوق 67 عاماً، فلن يكون هناك أقل من 21 مليون ألماني فوق 80 عاماً، وهم بمعنى من المعاني خارج سوق العمل، وبعضهم يتطلب رعاية. وأشار الباحثون إلى أنّ التنبؤات طويلة الأجل بالنسبة لأعداد المواطنين ليست مجرد تنبؤات "بل تقوم على هيكلية التغيرات السكانية، واستندت إلى ثلاثة افتراضات تتعلق بمعدلات المواليد والعمر المتوقع وتوازن الهجرة".

معادون للمهاجرين في ألمانيا (فرانس برس) 












عملياً، تشير الأرقام الرسمية إلى أنّه تزامناً مع انخفاض نسبة المواليد وزيادة الهجرة، فإنّ من بين نحو 80 مليون نسمة في ألمانيا هناك ثمة 20.8 مليوناً من خلفيات مهاجرة مختلفة، ونحو 52 في المائة، في الأرقام الأخيرة، يحملون الجنسية الألمانية. وبالرغم من الجهود الألمانية المتواصلة لزيادة، أو قلب معدلات الإنجاب السلبية، تشير المؤشرات الإحصائية الرسمية للفترة حتى 2060 إلى انخفاض أعداد سكان ألمانيا من نحو 80 مليوناً إلى نحو 74 مليوناً بحلول عام 2060. وإذا استمرت النسب المشار إليها سابقاً، لجهة ارتفاع أعداد المهاجرين وارتفاع معدل المواليد لدى ذوي الأصول المهاجرة، وهو ما يستغله تخويفاً معسكر يميني قومي، فإنّ هؤلاء سيشكلون نسبة لا بأس بها في التشكيل الديمغرافي المقبل للبلاد. وبعض السجالات تتجه نحو ضرورة التسليم بعدم الإبقاء على تصنيفات "أصول مهاجرة" خصوصاً مع ميل نحو اندماج الأجيال المنحدرة من تلك الأصول، واعتبار نفسها منتمية إلى ألمانيا. لكن في المقابل، يواصل القوميون والشعبويون، ومن بينهم جماعات راديكالية تتحدث عن "ضرورة الحفاظ على الهوية الإثنية والثقافية البيضاء للبلاد" في إثارة كثير من المخاوف عن انتشار أكبر للمسلمين.

يستند هؤلاء، المتخوفون، من تقارير بحثية تعود إلى ما قبل عامين، كغيرهم من الأوروبيين في دول نذكر منها على وجه التحديد 10 دول إلى جانب ألمانيا، بسبب تواجد نسبة لا بأس بها من مواطنين مسلمين، وهي النمسا والسويد وإيطاليا وفرنسا وهولندا وبريطانيا وبلجيكا وسويسرا والنرويج والدنمارك، بالرغم من أنّ الأخيرة فيها كثير من تضخيم أرقام غير صحيحة بحسب الأبحاث المتوازنة. كذلك، تشهد دول في شرق أوروبا مشكلة انخفاض نسب الإنجاب، وتحذر من هجرة المسلمين، بالرغم من أنّها لا تضمّ نسباً كبيرة منهم مقارنة بغرب القارة. أما أسباب زيادة أعداد المسلمين في أوروبا فيرده باحثو مركز "بيو" إلى أنّها "أقليات فتية" أي إنّ نسبة الشباب والأطفال فيها تفوق مثيلاتها الغربية.

التحدي الأخطر
وفي مقابل هذا السجال وحملات التخويف من المستقبل الأوروبي الديمغرافي - التي تعطي أحياناً صورة أنّ نسبة مسلمي السويد ستتجاوز 30 في المائة بعد 3 عقود ومثلها في الدنمارك، بالرغم من أنّ الدراسات المتوازنة لا تعطي أكثر من 7.9 في المائة للأخيرة عام 2050- يذهب باحثون آخرون ومتخصصون في الديمغرافيا الأوروبية إلى التخفيف من هذه المخاوف بربطها بما يسمونه "متغيرات اقتصادية- اجتماعية وثقافية" تضع حتى الأجيال الجديدة من مسلمي القارة في مستوى الإنجاب نفسه، كما بقية أفراد مجتمعاتهم الأوروبية. في العموم، لا أحد يستطيع أن يتجاهل أنّ أوروبا تشهد فعلياً متغيرات في قضية انخفاض نسب الخصوبة والإنجاب، وفي بعض دولها إلى ما دون 1.4 طفل في الألف، ما يشكل خطراً حقيقياً لمستقبل دولة الرفاهية والرخاء بزيادة نسبة كبار السن والحاجة ليد عاملة، ماهرة وغير ماهرة. وجرت في العقدين الأخيرين مناقشة فتح أبواب الهجرة لحلّ مشكلة النقص المقبلة، أو قلب المعادلة. وأدى استقبال اللاجئين، في بعض الدول، ممن عول بعض السياسيين عليهم لقلب معادلة تناقص أعداد السكان، إلى جنوح أقطاب وأطراف، في السياسة والمجتمع، نحو التشدد والتطرف، كما حدث في الحالة الألمانية التي حُمّلت فيها المستشارة الألمانية مسؤولية ما يسميه اليمين المتطرف "كارثة فتح الذراعين" بكثير من التضخيم الإعلامي والسياسي، حول مهاجرين ولاجئين ساهم بعضهم بممارسات سلبية. وتبدو القضية واضحة في بعض دول القارة، كالنمسا وإيطاليا وألمانيا والدنمارك والسويد وهولندا، أكثر من غيرها مع الصعود القوي لمعسكرات التشدد القومي الداعي أحياناً لطرد كلّ مسلمي البلاد.




وفي المقابل، يذهب باحثون ومفكرون غربيون إلى اعتبار أنّ الإبقاء على مجتمعات أوروبا كما كانت في بدايات القرن المنصرم، لناحية الانسجام العرقي، أمر يصعب الحفاظ عليه، ويعوّل هؤلاء على قدرة أوروبا على أن تستوعب مواطنيها بعيداً عن الخلفيات العرقية "إن أرادت النجاة من مستقبل قاتم كدول متقدمة تحافظ على دول الرفاهية والرعاية". وبين هذه وتلك من الأفكار، يبقى التسليط على أجيال متعاقبة، من ذوي البشرة الداكنة، أو من الخلفيات المسلمة وغير الغربية عموماً، ما يخلق دينامية سلبية في علاقة هؤلاء بمجتمعاتهم التي ولدوا وكبروا فيها ولم يعرفوا أوطاناً غير التي عرفوها كأوروبيين. وذلك أصعب تحدٍ تعيشه القارة، في العقود المقبلة.

المساهمون