النظام والصيادلة... أزمة ضحيتها صحة المصريين ودواؤهم

النظام والصيادلة... أزمة ضحيتها صحة المصريين ودواؤهم

12 سبتمبر 2019
المواطن مهدّد كذلك بدوائه (العربي الجديد)
+ الخط -

أزمة قديمة جديدة تشغل المصريين، إلى جانب مشاكل أخرى مختلفة تؤرّقهم. ومن البديهي أن تثير قضية قطاع الصيادلة قلق المواطنين، لا سيّما أنّها تطاول صحّتهم ودواءهم.

قبل نحو أسبوعين، ألقت قوات الأمن المصرية القبض على الوكيل العام لنقابة صيادلة مصر الأسبق الدكتور محمد سعودي والأمين العام لنقابة صيادلة مصر الأسبق الدكتور أحمد فاروق شعبان، قبل أن يتواريا عن الأنظار. قد يبدو نبأ إلقاء القبض عليهما مألوفاً في إطار الحملات الأمنية المتعاقبة التي تشنّها الأجهزة الأمنية على الناشطين والسياسيين والنقابيين البارزين في مصر منذ أعوام عدّة، لكنّ ذلك تزامن مع دعوة أكثر من 200 صيدلي مصري إلى عقد جمعية عمومية طارئة لإنهاء الحراسة القضائية على النقابة ومناقشة ملفات مهمّة وحيوية تخصّ القطاع الصيدلي في البلاد. لذا، لا بدّ من التوقّف عند هذا الأمر، لا سيّما أنّ الأجواء السياسية والنقابية في مصر تشهد حالياً محاولات تمرير حزمة من القوانين والتشريعات التي تتعلق بمجال الصيدلة والطبّ، مثل قانون التأمين الصحي الجديد الذي سوف يسمح لهيئة التأمين الصحي بإنشاء صيدليات خارج إشراف التأمين الصحي وكذلك قانون الهيئة المستقلة للدواء في مصر وغيرهما. وكان عشرات الصيادلة قد وقّعوا في أغسطس/ آب المنصرم على محاضر للإعلان عن رفضهم الحراسة القضائية على نقابتهم، والمطالبة بعقد جمعية عمومية طارئة. ولنقابة الصيادلة في مصر باع طويل مع الحراسة القضائية، ففي بداية إبريل/ نيسان الماضي، بدأ الحارس القضائي المُكلّف إدارة شؤون نقابة الصيادلة إجراءات تسلّمها استناداً إلى حكم صادر في فبراير/ شباط الماضي يقضي بفرض حراسة قضائية على النقابة.

قانون التأمين الصحي

مبكراً، بدأ الصيادلة يعبّرون عن مخاوفهم من بنود قانون التأمين الصحي الشامل، وقد حذّر رئيس شعبة الصيادلة في اتحاد الغرف التجارية المصرية، محمود عبد المقصود، من الإغلاق الذي سوف يطاول 72 ألف صيدلية خاصة في حال عدم الاعتماد على الصيدليات الخاصة والاقتصار فقط على الصيدليات الحكومية في القانون الجديد. كذلك، كان سعودي - المقبوض عليه والمخفيّ قسراً - قد حذّر مبكراً من تعامل القانون الجديد مع الدواء باعتباره سلعة تجارية، مشيراً في تصريحات صحافية سابقة إلى أنّ "فتح هيئة التأمين الصحي الجديدة لصيدليات في المستشفيات هو بمثابة قتل نحو 70 ألف صيدلية خاصة".

وسبق أن أعلن اتحاد نقابات المهن الطبية الذي يشمل الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان والأطباء البيطريين، في بيان رسمي، في أثناء مناقشة قانون التأمين الصحي الشامل في مجلس النواب المصري، أنّ مشروع القانون يؤدّي إلى القضاء على الصيدليات العامة، إذ إنّه يسمح لهيئة التأمين الصحي بإنشاء صيدليات مكانها، كما يسمح بالتعاقد مع صيدليات ذات مواصفات خاصة في مقابل مبالغ تأمين عالية. وشدّد الاتحاد على أنّ ذلك أمر يخالف كلّ الأعراف والقوانين المعمول بها في كلّ دول العالم، وسوف يترتّب عليه الإخلال بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الصيدليات الكبيرة وتلك الصغيرة، مع توقّف الصيدليات الصغيرة عن العمل وإفلاسها، علماً أنّ عددها كبير جداً خصوصاً في الأقاليم والمراكز والقرى، كذلك سوف تزداد البطالة في صفوف الصيادلة ومساعديهم الأمر الذي يزيد إفقار الأسر وبالتالي المجتمع بسبب سيطرة رأس المال على المنظومة الصحية خصوصاً سوق الدواء.

تجدر الإشارة إلى أنّ القانون الجديد نصّ على فرض رسوم على ترخيص الصيدليات بمقدار 20 ألف جنيه مصري (نحو 1200 دولار أميركي) للصيدلية الواحدة، وألف جنيه (نحو 60 دولاراً) لتجديد الترخيص، كما نصّ في مادته 23 على أنّه من حقّ الهيئة العامة للرعاية الصحية إنشاء صيدليات وفقاً لقانون مزاولة مهنة الصيدلة 127 لسنة 1955.



قانون هيئة الدواء... ملاحظات أساسية

ينصّ مشروع قانون الهيئة المستقلة للدواء في مصر على إنشاء "المجلس الأعلى للدواء والتكنولوجيات الطبية" برئاسة رئيس الجمهورية وعضوية الوزراء ذوي الاختصاص. وهو يهدف إلى وضع السياسة العامة المتعلقة بالدواء والتكنولوجيات الطبية والرقابة عليها وإقرار الخطط والبرامج اللازمة ذات الصلة. ويتضمّن ذلك إنشاء هيئتَين عامتَين، الأولى "الهيئة المصرية للتكنولوجيات الطبية" التي تتولى عمليات الشراء الموحّد للمستحضرات والمستلزمات والأجهزة الطبية، والثاني "هيئة الدواء المصرية" التي تتولى الرقابة على الدواء.

وقد تواصل الغضب المكتوم في أوساط الصيادلة في مصر، منذ إعداد قانون هيئة الدواء المصرية واستمرّ حتى إقراره، لكنّه غضب لم يثمر شيئاً. والاعتراض الأساسي هو على إغفال القانون ضرورة تولّي صيدلي رئاسة الهيئة، ما يثير الشكوك بشأن من تراهم السلطة الأصلح لتولي مناصب مماثلة. كذلك انتزع القانون الأدوية البيطرية من ولاية هيئة الدواء، وهو أمر يناقض المتعارف عليه دولياً. ولم يحافظ التشريع الجديد على استقلالية الهيئات الجديدة في ظلّ هيمنة المجلس الأعلى للدواء. أمّا الأبحاث السريرية فكان لها نصيب الأسد من مخاوف الصيادلة والأطباء الذين طالبوا بمراعاة تضمين القانون الوظائف الرقابية وفقاً للمتطلبات العالمية، ومن بينها التقييم العلمي للدراسات السريرية وتفتيش المراكز البحثية والجهات ذات الصلة للتأكد من تطبيق معايير الممارسة السريرية الجيدة.




إفساح المجال أمام "19011"

تزامنت الأزمات النقابية والتشريعية التي تواجهها نقابة الصيادلة في مصر مع هجوم إعلامي حاد على النقابة والصيادلة. وقد اتّهم الإعلامي المصري المقرّب من النظامَين الحاكمَين المصري والسعودي، عمرو أديب، الصيادلة بـ"بصرف الروشتات (الوصفات) الطبية، والقيام بأدوار الأطباء في الكشف والتشخيص". وظلّت كلّ تلك الأزمات مواربة حتى طفت أزمة صريحة على السطح تنذر بسياسات جديدة للتعامل مع الصيادلة لا تستثني صغيراً ولا كبيراً، عندما ألغت نقابة الصيادلة عضوية اثنَين من أكبر أصحاب سلاسل الصيدليات في مصر، هما أحمد العزبي رئيس غرفة صناعة الدواء في اتحاد الصناعات وحاتم رشدي، لمخالفتهما القوانين عبر استخدام أسماء آخرين لفتح مزيد من الفروع. يُذكر أنّ قانون مهنة الصيدلة المصري، 127 لسنة 1955، ينصّ على أنّ "لكلّ صيدلي أن يتملك صيدليتَين، يدير واحدة منهما فقط"، لكنّ الصيادلة يتحايلون على هذا النصّ عبر استخدام أسماء صيادلة آخرين لفتح سلاسل في مقابل مبالغ مالية شهرية.

في المقابل، انتشرت فروع سلسلة جديدة للصيدليات حملت اسم "19011"، علماً أنّ أكثر من 100 فرع لها فتح في أقلّ من عام، وسط تكهّنات أقرب إلى الحقيقة بعلاقتها مع جهات سيادية مصرية، الجيش والاستخبارات، على الرغم من نفي المتحدّث العسكري المصري ذلك. ولعلّ ذلك النفي الرسمي في بيان، هو ما يزيد من حالة الجدال حول تلك الصيدليات، مع الإشارة إلى أنّه لم يظهر بعد أيّ مالك لها على الرغم من لا منطقية أن يكون صاحب سلسلة صيدليات بهذا الانتشار والحجم مجهولاً. على أقلّ تقدير، لا بدّ من أن يكون مسجّلاً في كشوف نقابة الصيادلة. ومع ذلك، لم تقترب الحملة التي استهدفت سلسلة صيدليات "العزبي" و"رشدي" من صيدليات "19011"، الأمر الذي زاد الشكوك وأثار مزيداً من الجدال.



تحذير من السيطرة على سوق الدواء المصري

في السياق، يعبّر صيادلة ومراقبون عن مخاوفهم من السيطرة على سوق الدواء المصري الذي تعادل قيمته نحو 60 مليار جنيه (نحو ثلاثة مليارات و600 مليون دولار)، ويحذّرون من استحالة إعادة هيكلته وترتيبه وسط معلومات متداولة عن مفاوضات سعودية وإماراتية تستهدف الاستثمار في هذا القطاع المهمّ. وكانت تقارير إعلامية قد أشارت إلى بدء كيانات عربية عاملة في القطاع الدوائي مفاوضات مع عدد من بنوك الاستثمار المحلية لترشيح شركات محلية يمكن الاستحواذ عليها في الفترة المقبلة. أضافت التقارير نفسها أنّ شركات من الإمارات والكويت والسعودية واليمن تدرس حالياً ملفات شركات متوسطة الحجم في السوق المصري للاستحواذ عليها، فيما السوق يعاني من خسائر كبرى نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج بعد قرار البنك المركزي تحرير سعر الصرف في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. ووفقاً لبيانات غرفة صناعة الأدوية في مصر، ثمّة 14 ألف صنف دوائي تقريباً مسجّلة لدى إدارة الشؤون الصيدلية في وزارة الصحة المصرية، يُنتَج منها فقط نحو ستّة آلاف صنف في داخل السوق المحلي.

وتشير ورقة بحثيّة صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (منظمة مجتمع مدني مصرية) في يوليو/ تموز الماضي، إلى أنّ صناعة الدواء تُعَدّ صناعة استراتيجية مهمّة بدأت مصر فيها قبل عقود وحقّقت تقدماً في ستينيات القرن الماضي، إلا أنّ تدهوراً حصل في أداء شركات الأدوية الحكومية التابعة لقطاع الأعمال، بينما تحكّمت المصالح الضيّقة في أداء شركات الأدوية الخاصة التي تتحكم في النسبة الأكبر من الصناعات الدوائية المصرية. لذلك يُعَدّ هذا القطاع من أكبر القطاعات التي تشهد ممارسات احتكارية، ما ينعكس على غياب الاستخدام الرشيد للأدوية وتضاعف أسعار الدواء مرّتَين في السنوات الثلاث الأخيرة ومشاكل نقص الدواء.




كذلك، تناولت الورقة البحثية نفسها تزايد سيطرة شركات الدواء الأجنبية على سوق الدواء المصري وزيادة الاعتماد على الأدوية المستوردة، من دون إصلاح الخلل في شركات الدواء العامة ومن دون تطويرها، فصارت شركات الدواء الحكومية تنتج نسبة لا تتعدى خمسة في المائة من سوق الدواء بعدما كانت تقترب من 90 في المائة في ستينيات القرن الماضي. وبالتالي، عاد الوضع شبيهاً بما كان عليه في النصف الأول من القرن العشرين في ما يتعلّق بسيطرة الشركات الأجنبية.

دلالات

المساهمون