غزّيات الخليل... الموت "فرصة" للقاء الأهل في القطاع المحاصر

غزّيات الخليل... الموت "فرصة" للقاء الأهل في القطاع المحاصر

22 يوليو 2019
معاناتها كبيرة (حازم بدر/ فرانس برس)
+ الخط -

لا تسمح سلطات الاحتلال الإسرائيلي للنساء الغزيات اللواتي استقر بهن الحال في محافظات الضفة الغربية المحتلة، ومنها الخليل، بزيارة أهلهنّ في قطاع غزة المحاصر إلا في حالات الوفاة.

عندما أرادت غادة عبد الوهاب السفر من الضفة الغربية المحتلة إلى مصر لوداع والدها الراقد في أحد المستشفيات هناك، بداية عام 2012، لم يمنحها الاحتلال الإسرائيلي تصريحاً لذلك، غير أنّها تمكّنت من الأمر بعد فوات الأوان... بعد وفاته. كان من المفترض أن تُصدر سلطات الاحتلال تصريح زيارة مثلما جرت العادة في حالات المرض الشديد والموت، لكنّ الأمر لم يحصل، فحُرمت غادة من رؤيته وهو حيّ. أمّا والدتها وشقيقتاها وشقيقها فبقوا لفترة في مصر بعد وفاة ربّ الأسرة، مخلّفين وراءهم في حيّ الرمال بمدينة غزة منزلاً وثلاثة محال تجارية مقفلة.

تعود أصول غادة عبد الوهاب إلى مدينة غزة، لكنّ عائلتها انتقلت للعيش مؤقتاً في مدينة الخليل، جنوبي الضفة الغربية المحتلة، قبل أن تتزوّج هي من فلسطيني من الخليل ويرجع أهلها إلى مدينة غزة. أنجبت غادة ثلاث بنات وابناً واحداً، وقد استقرّت في مدينة الخليل، فبدأت بذلك المعاناة، إذ إنّها مُنعت من رؤية عائلتها في قطاع غزة المحاصر إلا في مرّات استثنائية، ثمّ حدث ما حدث إثر وفاة والدها.

في الماضي، كان التواصل بين أهل القطاع وبين أهل الضفة الغربية متاحاً، وكانت علاقات مصاهرة تنشأ بين العائلات الفلسطينية في المنطقتَين، من دون أن تعرف تلك العائلات أنّه سيأتي يوم تكون فيه رؤية بعضها البعض مشروطة بموت أحد أفرادها. وتعاني نساء غزيات متزوجات في الضفة الغربية من جرّاء ذلك، إذ إنّ الاحتلال لا يسمح لهنّ بزيارة أهاليهنّ في قطاع غزة، إلا في حال وقوع وفاة وشريطة أن تجمع صلة قرابة من الدرجة الأولى بين المرأة وبين المتوفي، مع إبراز صورة عن شهادة الوفاة. بذلك يصرّ الاحتلال على ألا تلتقي المرأة الغزية بأبيها أو أمّها أو أخيها أو أختها إلا وهم جثث هامدة، فيكون بالتالي اللقاء الأوّل من بعد فراق طويل واشتياق أليم، لقاءً أخيراً.



مع استقرار أهل غادة في مصر، صارت هي تقصدهم سنوياً من الخليل وتتحمّل مشقات السفر إلى الأردن ثمّ إلى مصر، بالإضافة إلى التكاليف المالية الكبيرة. ولا تخفي غادة ألمها، إذ إنّها لم تتمكّن من رؤية أعمامها وعمّاتها في غزة قبل وفاتهم. لم يتبقّ لها سوى عمّة واحدة تعيش في الكويت ولا يسمح لها الاحتلال بالدخول إلى الضفة الغربية ولا إلى قطاع غزة، إذ إنّ أصول عائلتها تعود إلى مدينة يافا وقد تهجرّت خلال نكبة عام 1948. وتخبر غادة أنّ "المرّة الأخيرة التي زرت فيها حيّ الرمال في مدينة غزة، كانت في عام 2000 قبل إغلاق المعابر بساعات. حينها كنت أحضر حينها زفاف واحدة من شقيقتَيّ، فوضّبت أغراضي وأغراض أطفالي بسرعة فائقة وتوجّهت إلى معبر بيت حانون. كانت الأوضاع متوتّرة مع بداية انتفاضة الأقصى. منذ ذلك اليوم، لم أرَ أهلي إلا في مصر بعد وفاة والدي".

في حكاية معاناة أخرى، توفي في عام 2009 الفلسطيني محمد موسى، الشقيق الأكبر لسعاد أبو عرقوب، التي تعيش مذ تزوّجت في بلدة دورا الواقعة جنوبي محافظة الخليل. ولم تتمكّن سعاد من الحصول على تصريح من الاحتلال للمشاركة في جنازة شقيقها، إلا متأخراً. وصلت إلى غزة وقد تمّ دفنه، فأصيبت بانهيار عصبي. تقول المرأة الستينية: "لم أرَ أهلي الذين يعيشون في مخيّم المغازي للاجئين بوسط قطاع غزة إلا عند وفاتهم وسط البكاء". فهي عانت كثيراً، لا سيّما أنّ أربعة من أشقّائها قد توفوا وما زالت شقيقتان اثنتان لها على قيد الحياة، إحداهما تعيش في غزة والأخرى في دولة الإمارات. يُذكر أنّ والدَيها وشقيقة لها فارقوا الحياة قبل منع التصاريح، فتمكّنت من وداعهم. صحيح أنّها تألّمت في تلك المرّات الثلاث، فموت الأعزاء بحدّ ذاته من أقسى التجارب التي يخبرها الإنسان، غير أنّ الألم اليوم أكبر بكثير.




كذلك فقدت سعاد أخيراً شقيقا آخر من أشقائها وأحبّهم إلى قلبها، بطل فلسطين في كمال الأجسام في ثمانينيات القرن الماضي، كمال موسى، الذي لم يشفع له ذلك اللقب في الحصول على تصريح عاجل بهدف تلقّي العلاج في مصر أو في أحد مستشفيات القدس المحتلة، بعدما كان يعاني من جرّاء قصور في وظائف الكبد. يُذكر أنّه في خلال عزاء كمال، توفي موسى وهو شقيق آخر لسعاد، فصار العزاء اثنَين وتعاظم ألم سعاد، مع الإشارة إلى أنّها تعاني من مشكلات في القلب.

قبل تشديد إجراءات الدخول إلى قطاع غزة المحاصر، كانت سعاد التي تزوّجت في عام 1976 واستقرّت في الضفة الغربية المحتلة تزور أهلها شهرياً برفقة زوجها وأولادهما، أربع بنات وأربعة أبناء، أمّا أخيراً فلم تعد تزورهم إلا عند وفاة أحدهم. يُذكر أنّ سعاد في حاجة إلى مرافق عند تنقّلها لمسافات طويلة، على خلفية حالة قلبها الصحية، غير أنّها لا تحصل إلى على تصريح لها وحدها كلّما احتاجت إلى الانتقال إلى غزة لحضور عزاء. وفي عام 2014، توفي شقيقها عيسى وهو يعبّئ الماء من أحد الخزانات، نتيجة قصف طائرة حربية إسرائيلية، غير أنّها لم تتمكّن حينها من الحصول على تصريح بسبب الحرب التي كان يشنّها الاحتلال على غزة.



دلال أبو طواحين استقرّت كذلك في بلدة دورا بعد زواجها في عام 1987، لكنّ أصولها تعود إلى دير البلح وسط قطاع غزة. تعبّر دلال عن "رغبة كبيرة في استنشاق هواء غزة والاجتماع بالأهل"، غير أنّها لا تخفي قلقها من عدم العودة إلى أولادها وزوجها. وتبدو دلال مترددة: "في حال حصلت على تصريح، فإنّني أخشى احتجازي هناك في غزة. لا أستطيع المجازفة، لأنّ كلّ ما أملك اليوم هو هنا في دورا... أولادي وزوجي". لكنّها لا تستطيع كتمان ألمها، فهي لم تعانق منذ عام 1999 أيّاً من أهلها، ولم تقبّل يد والدتها طالبة منها الرضا والبركة. وفي عام 2017، توفي شقيق دلال الوحيد. قدّمت حينها المرأة الأربعينية شهادة وفاته للارتباط المدني، لكنّ سلطات الاحتلال رفضت منحها تصريحاً للمشاركة في جنازته، الأمر الذي ما زال يحرقها في الصميم.

تقرّ دلال بقسوة فراق الأهل والمنع من السفر، غير أنّها قرّرت مواجهة كل ذلك من خلال بدائل. صحيح أنّ الاحتلال منعها من التواصل المباشر مع أهلها، غير أنّها أنشأت حولها شبكة اجتماعية موسّعة من أقارب زوجها والمعارف والأصدقاء، وهي تعمل اليوم في مجال تدريب النساء على قيادة السيارات في مدرسة للقيادة يملكها زوجها. وتؤكد: "حُرمت من أهلي، لكنّ الله عوضني بمحبّة الناس من حولي". وفي حفل زفاف أحد أبنائها، سُئلت دلال عن "المعازيم" (الضيوف) من جهتها لأنّ أهلها في غزة، فردّت "سوف يحضر كلّ أحبائي وناسي هنا". يُذكر أنّ لدلال في غزة سبع شقيقات ووالدتها المريضة، أمّا والدها فقد توفي قبل منع التصاريح، لذا تمكّنت من وداعه. تقول دلال بحرقة شديدة: "أتمنى بعد 19 عاماً من الفراق أن أرى أهلي لأطمئنّ عليهم وأن أرى شوارع غزة اليوم وناسها. ربّما لن أعرف هؤلاء. كذلك اشتقت إلى مذاق سمك غزة". وتسأل: "شجر دير البلح، هل تغيّر؟".




وتواصل تلك النساء في الخليل مع أهلهنّ في قطاع غزة المحاصر، تماماً كما تواصل غيرهنّ في الضفة الغربية المحتلة عموماً، يقتصر على المكالمات الهاتفية ووسائل التواصل الاجتماعي، كما لو كنّ مهاجرات في بلدان أخرى بعيدة. هؤلاء اللواتي أُبعدنَ قسراً عن عائلاتهنّ الأصلية يتمنّينَ، جميعهنّ، أن تُفتَح المعابر ليتمكّن من رؤية أهلهنّ أو ما تبقى من أثرهم. وفي غزّة عائلات تتوق إلى رؤية بناتها، لا سيّما أفرادها المتقدّمين في السنّ. هؤلاء يخشون الموت قبل لقائهنّ ولو لمرّة.

وفي ما يُعَدّ سخرية القدر، يبدو أنّ الموت هو "الفرصة" الوحيدة اليوم لإلقاء نظرة أخيرة على أب أو أمّ أو أخ أو أخت قبل أن يوارَوا الثرى. كأنّما الاحتلال يصرّ على عدم السماح للفلسطينيين باللقاء، إلا وسط الأحزان ومنغّصات كثيرة تختلف طبيعتها وأشكالها.