كذب الطبيعة

كذب الطبيعة

07 مايو 2019
الحشرات تحتال أيضاً (سعيد خطيب/ فرانس برس)
+ الخط -


كنا نسميها "شجيرة الفأس"، ولم نعرف لها اسماً آخر. هي من أشجار الحوض الفيضي لنهر النيل، ولعلها من جنس الأكاشيا كثيفة الأغصان، تجدها تنكمش وتذبل لحظة أن يمسها جسم غريب مدعية الموت، وفي هذا تفسير للاسم المتداول، فهي تدرأ عن نفسها فأس الحطَّاب، وربما بعض الأنعام التي لا تتناول الذابل من العشب والأغصان. وهي بهذا تشبه نوعاً من الخنافس متوسطة الحجم، طويلة الأرجل، خشنة الملمس، نسمِّيها "ست الجيل"، ولا أدري أي جيل هي سيدته كما يتساءل عمنا الصدّيق رحمه الله! ولكن.. لعلها سيدة جيلها من الحشرات في الذكاء والتحايل، إذ تنقلب على جنبها حين يقترب منها العدو، وتمدّد أرجلها، كأنها ميتة من أيام، وتبقى كذلك حتى يزول الخطر.

هل تكذب الطبيعية، أم أنها غريزة البقاء... وأن البشر يحاولون دائماً اتهام سواهم بجريرة الكذب؟

اكتشف باحثون في جامعة بوتسدام الألمانية أن الكذب منتشر بدرجة كبيرة في المملكة الحيوانية على عكس ما كان متوقعاً، فبجانب الطيور والقرود التي سبق إثبات كذبها وجدوا أن سمكة الأمازون تتبع إستراتيجية التحايل والخداع حتى تتمكن من اختيار السمكة الأكبر حجماً لأجل التزاوج. كما أن بعض السناجب تخفي طعامها، أو تزوّر مظهره حتى لا يصل إليه الأعداء، وتجلس مدعية الجوع وقد تجد من يشاركها وجبته.

لم تبرأ حتى فابولات الحيوانات من تهمة الكذب. والفابولة هي القصة المروية على لسان الحيوان أو النبات، وتحمل الكثير من الرسائل الأخلاقية والتعليمية، والمضامين الإنسانية. ففي إحدى حكايات كليلة ودمنة ورد: "فأمر الأسد عند ذلك بدمنة، فقدِم في عنقه جامعة السجن، وأمر بالنظر في أمره. فقالت أم الأسد: لقد بلغني عن هذا الفاجر الكذّاب شرَّ ما يقال عن أحد. وتتابعت الألسن عليه، وهو له محيل، ولا يخفى أمره علي...".



لدينا مثلٌ يُضرب على لسان الثعلب، فيقال "هي هكذا لمن يعرفها". وتقول الأسطورة أنه في مرة أدين الثعلب بجرم ما، وحُكم عليه بالموت، فطلب إلى القاضي أن يمهله ريثما يصلي ركعتين لله، فسمح له. وما أن وقف للصلاة حتى تراخت قبضة السجان، على يقين أنه سيشدد منها قبل الفراغ من الصلاة، إلا أن "أبو الحصين" أنهى صلاته واقفاً في ذات اللحظة وهرب، وعندما تصايحوا خلفه عن الصلاة أطلق المثل "هي هكذا لمن يعرفها".

ليست كل الأساطير عند الشعوب الأفريقية للتسلية وتزجية الوقت، بل هي شرح وافٍ لكيفية تشكُّل عوالمهم بمكوناتها الطبيعية من أرض وسهول وجبال وأنهار، وأمطار ونبات، وحيوانات وطيور وحشرات. يحمّلونها التعاليم ومبادئ الأخلاق وكافة رسائل الحياة. ومن البداهة أن يجعلوا العجمي فيها ينطق ويكذب، حتى يُدان فيتعلم البشر من إدانته.

(متخصص في شؤون البيئة)

المساهمون