"البلد" بالأبيض والأسود

"البلد" بالأبيض والأسود

18 ابريل 2019
بعض من ذاكرة (العربي الجديد)
+ الخط -

في "بيت بيروت" الذي لطالما عُرِف بـ"البيت الأصفر"، الواقع في منطقة السوديكو التي كانت تُعَدّ خطّاً من خطوط التماس في خلال الحرب اللبنانيّة، يعرض مصوّرون صحافيّون لبنانيّون لقطات من تلك الحرب التي احتُفل بذكراها قبل أيّام، في الثالث عشر من إبريل/ نيسان. الصور مؤلمة، لا مجال للشكّ بذلك. ثمّة صور تَمُسّك في أعماقك أكثر من سواها. أمّا السبب فيبقى مبهماً. قد تكون أسباباً لا سبباً واحداً. ربّما عايشْت لحظة مماثلة لتلك التي وثّقتها كاميرا أحد هؤلاء المصوّرين الصحافيّين. ربّما سجّلَت ذاكرتك مشهد دمار في بقعة جغرافيّة تشبه إلى حدّ كبير بقاعاً حفظتها لقطات بالأبيض والأسود في مبنى ما زال شاهداً على سواد حرب فوّت جيلنا فصولاً كثيرة منها. ربّما...

ليست تلك اللقطات وحدها التي تؤلمك. "بيت بيروت" ذاك الذي نُظّمت حملات كثيرة للحؤول دون هدمه ودون سقوطه نتيجة تهالكه، صار مسخاً. ترميمه شوّهه وقد مسّ بهويّته الأصليّة. حبّذا لو حافظ مرمّموه على الندوب التي تركتها الحرب فيه. صحيح أنّهم تركوا بعضها، غير أنّهم طمسوا كثيراً منها في عمليّات تجميل متعثّرة. حبّذا لو أبقوا جدرانه كلّها على حالها، ممتلئة بالفجوات التي خلّفها رصاص القنّاصين وشظايا القذائف، ولم يطيّنوها. حبّذا لو لم يمحوا كتابات كثيرة أراد مقاتلون من خلالها تخليد مرورهم "من هنا"، وتركوا قليلاً منها فقط. حبّذا لو لم يعيدوا تبليط الأرضيّات التي نُهِب بلاطها الأصليّ... بلاط لطالما ميّز بيوت بيروت القديمة ويُباع اليوم في السوق السوداء. البلاط العصريّ الذي لجأ إليه المهندسون المرمّمون أمعن في مسخ ذلك "البيت". حبّذا لو حافظوا على الذاكرة... ذاكرته... ذاكرة حرب ما زلنا نجرجر أذيالها. لو فعلوا، لبقي شاهداً أميناً على ما حدث في يوم... في سنوات طالت.

ليس "البيت الأصفر" وحده الذي فقد هويّته. غير بعيد عن موقعه الجغرافيّ، ثمّة مسخ آخر... "وسط بيروت" أو "الداون تاون" الذي كان في يوم "البلد" أو "وسط البلد" أو "الأسواق". ملامحه تبدّلت كليّاً. فتحاول وأنت تشاهد ما وثّقته لقطات المصوّرين الصحافيّين، الذين يستمرّ معرضهم "ذكرى وعبرة" حتى نهاية إبريل/ نيسان الجاري، تحديد مواقع مبانٍ وأحياء اندثرت. إعادة إعمار "الأسواق" تماماً كما ترميم "البيت الأصفر"، أمعنت في طمس هويّة المدينة وذاكرتها وهويّة أهلها وذاكرتهم. تجريف كلّ ذلك الركام وتلك المباني المشظّاة وكذلك الآثار التاريخيّة القديمة، التي شهدت عليها تلك اللقطات، أتى أشبه باغتيال لروح "البلد"... روح البلاد.




في "بيت بيروت" الذي يجاور "الداون تاون"، بعض من ذاكرة لن يطمسها تغيير اسم أو ملامح. هناك، ثمّة تاريخ وثّقته كاميرات سقط بعض أصحابها شهداء، فكانوا بذلك شهوداً أمينين لويلات حُفرت عميقاً في روح الوطن وأهله، فخلّفت ندوباً وكذلك جراحاً لا تندمل.