"الشغل مو عيب" في العراق

"الشغل مو عيب" في العراق

29 مارس 2019
في أحد مطاعم العاصمة بغداد (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -

الظروف المعيشيّة المتردية تدفع شباناً كثيرين إلى مهن تُعَدّ "وضيعة". من بين هؤلاء متعلّمون يصرّون على أنّهم لا يخجلون ممّا يفعلونه

بمهارة عالية، يحمل علاء حمادي عشرة صحون مليئة بالطعام وقد رتّبها على امتداد ذراعه اليسرى، ويتنقّل بين الطاولات ليوزّعها على الزبائن بحسب طلب كلّ واحد منهم، بينما يرتفع صوت الشاب العشريني ليصدح في المكان بعبارات الترحيب المعتادة في المطاعم العراقية الشعبية.

وعلاء من هؤلاء العاملين المرغوب فيهم بالعراق عندما يتعلّق الأمر بمهن خاصة بخدمة الزبائن، من قبيل المطاعم، إذ إنّهم يجيدون كيفية ترغيب الناس في المكان ودفعهم إلى العودة من جديد، من خلال عبارات لطيفة يطلقونها وحركات محببة يؤدّونها. يقول علاء لـ"العربي الجديد" إنّ "إجادة عملي تمكّنني من رفع ما أتقاضاه من صاحب المطعم، كذلك يسمح لي بجمع بخشيش (بقشيش/ إكرامية) من الزبائن إذا كانوا راضين عن خدمتي لهم وأسلوب تعاملي معهم".

علاء الذي يحمل شهادة جامعية في الإدارة والاقتصاد، لم يكن يطمح إلى أقلّ من وظيفة في شركة تؤمّن له مستقبله استناداً إلى تخصصه، ويخبر أنّه "مذ تخرّجت قبل ستّة أعوام لم أنجح في الحصول على وظيفة في مجال تخصصي، واضطررت إلى العمل في مهنة لا تستوجب أن يكون العامل فيها من حملة المؤهلات العلمية. ثمّة أميّون يشتغلون في هذا المجال". ويردف علاء: "الشغل مو عيب".



وتنتشر مقولة "الشغل مو عيب" في العراق، إذ إنّه لا ضير ولا عيب في العمل إذا كان "شريفاً". وهذه المقولة ليست مستجدّة بين العراقيين، بل هي قديمة جداً في الواقع ولطالما ردّدها آباء على مسامع أبنائهم أو أطلقها أشخاص آخرون عند الانتقاص من قدر عمل أحدهم أو رفض شخص ما عملاً يُعرَض عليه بحجّة أنه دونيّ من وجهة نظره. ومن المعلوم في المجتمع العراقي أنّ كثيرين يُعدّون أعمالاً عدّة متدنّية ويترفعون عن تولّيها، من قبيل الشغل في دوائر البلدية كعمّال نظافة أو أجراء في مهن مثل تحميل البضائع والبناء وغيرهما، غير أنّ إقبال الشبان بدا لافتاً أخيراً على بعض الأعمال المتواضعة، خصوصاً بين حملة الشهادات الجامعية أو الطلاب الجامعيين الذين راحوا يرددون "الشغل مو عيب".

طارق عبد الرزاق (22 عاماً) طالب جامعي يفتخر أمام زملائه بأنّه ينفق على دراسته ويؤمّن ما يحتاج إليه في حياته من ماله الخاص الذي يجنيه من عمله. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه "على الرغم من أنّ أصدقاء لي يمازحونني عبر إطلاق ألقاب دونية عليّ، بسبب العمل الذي أمارسه، فإنّ كثيرين يحترمونني". يضيف: "بدأت أعمل في تنظيف مجاري الصرف الصحي قبل ستة أعوام، مذ كنت تلميذاً في المرحلة الثانوية. في البداية تردّدت كثيراً لأنّها مهنة متواضعة جداً ومحتقرة جداً. لكنّني أيقنت لاحقاً أنّ ذلك لا يعني إطلاقاً أنّ من يمارسها حقير. بخلاف ذلك، يزداد احترام الناس تجاهي عندما يتعرّفون إليّ ويجدونني أملك ثقافة يفتقرون هم إليها أو يفتقر إليها أبناؤهم الجامعيين المدللين".

وطارق الذي يصف نفسه بـ"النهام" لكثرة مطالعته واهتمامه بالكتب الأدبية، يؤكّد أنّ شغفه بالمطالعة هو الذي أجبره على ذلك العمل ليخفّف عن والده التكاليف. ويشرح: "لا يقلّ إنفاقي على الكتب في الشهر الواحد عن 200 ألف دينار عراقي (نحو 170 دولاراً أميركياً) تُضاف إليها تكاليف أخرى تخصّ دراستي وحياتي اليومية". وبعد أعوام من ممارسته مهنته تلك، صار طارق يعتمد في عمله على الاتصالات، ولم يعد يجلس على الرصيف المخصّص للعمّال المياومين في منطقة سكناه في حيّ السيدية، جنوبي بغداد، مثلما كان يفعل في البداية. ويوضح: "أضع عدّتي على درّاجتي وأقصد عنوان من اتّصل بي. ولأنّ سمعتي جيّدة، فإنّ العمل يتزايد"، مشدداً على أنّ "ما أقوم به عمل شريف وإن كنت أعود إلى المنزل ورائحتي لا تُطاق. والشغل مو عيب".

المهن التي توصف بالمتواضعة أو الشاقة يفتخر بها كثيرون اليوم، إذ إنّها "مفضِلة" عليهم، فهم وصلوا انطلاقاً منها إلى مراكز وظيفية مهمة أو صاروا من الميسورين. ليث حميدي وهو صاحب مكتب هندسة ويعمل في تجارة العقارات، يقول لـ"العربي الجديد" في السياق: "أخبر أولادي دائماً عن حياتي لمّا كنت صغيراً أعيش في كنف أسرة فقيرة، وهكذا صار لديهم تصوّر كامل عن الفقر الذي لا يعرفونه. وأنا أحرص على أن أردّد لهم باستمرار أنّ الفضل في المستوى المعيشي الجيد الذي يعرفونه فيه اليوم يعود إلى جدّهم الذي كان يعمل في تنظيف حدائق منازل العائلات الميسورة". ويشير حميدي إلى أنّ والده كان متشدداً معه في ما يخصّ الدراسة، "وهو كان يصرّ على تعليمي لأحتلّ مراكز مرموقة ولا يعاني أبنائي الفقر. وبالفعل، حققت حلمه ودخلت الهندسة. وكان يحثّني على أن أتعلّم أكثر وأدخل في مجال المقاولات لأصير مثل أحد الميسورين الذين كان يرتّب لهم حدائق منازلهم". ويتابع: "كنت بدوري حريصاً على تحقيق حلم والدي وبالفعل اشتغلت في المقاولات وصرت لا أقلّ شأناً عن ذلك الميسور، وأنا اليوم أؤكد لأبنائي أنّني فخور بعمل والدي وأكرر أمامهم باستمرار أنّ الشغل مو عيب".



في سياق متصل، نشط شبان على مواقع التواصل الاجتماعي مطلقين وسم ‏#الشغل_مو_عيب، وراحوا ينشرون قصصاً وصوراً وتسجيلات فيديو حول هذا الموضوع. وقد تشجّع عدد كبير من العراقيين الذين راحوا يشاركون أخباراً عن طبيعة عملهم الذي كانوا يخجلون من البوح به. عمار سالم (20 عاماً) يعمل في تلميع الأحذية، فيتّخذ له مكاناً على رصيف في منطقة الكرادة ببغداد، لممارسة مهنته التي تُعَدّ واحدة من أكثر المهن تواضعاً لا بل دونيّة بحسب المجتمع العراقي. يقول لـ"العربي الجديد": "أنا لست معنياً بما يجري من حولي، وهمّي هو رزقي اليومي الذي يوفّر له معيشة عائلتي التي أنفق عليها بعد وفاة والدي". وعمار الذي لا يملك هاتفاً جوّالاً، يشير إلى أنّه علم بوجود نشاط على مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان "الشغل مو عيب" من خلال أشخاص يلمّع لهم أحذيتهم باستمرار، مؤكداً "صرت أتلقى تشجيعاً كبيراً أخيراً". يضيف: "المضحك أنّ بعض الناس علموا من خلال مواقع التواصل بأنّ الشغل مو عيب!".

دلالات