دَين أصليّ

دَين أصليّ

21 مارس 2019
هي علاقة انصهار طبيعيّة (موني شارما/ فرانس برس)
+ الخط -

"أمّي يا ملاكي يا حبّي الباقي إلى الأبد...". لسنا في حاجة إلى أكثر من تلك الكلمات حتى ندرك منزلة والدة الشاعر سعيد عقل لديه. لسنا في حاجة إلى استكمال قصيدته التي غنّتها السيّدة فيروز، من ألحان الأخوَين رحباني، في عام 1967، لندرك الهالة التي رسمها هؤلاء جميعاً للأمّ والتي تبنّتها أجيال وأجيال. ليس سعيد عقل موضوع هذا المقال، ولا السيّدة فيروز التي أنشدت في أكثر من مرّة قصائد خاصة - اختلف ناظموها - بالأمّ، ولا الأخوان رحباني. الموضوع هو "الأمّ الملاك" و"الحبّ الأبديّ" لتلك الأمّ.

من يجرؤ على التحدّث عن الأمّ بأسلوب مغاير؟ من يجرؤ على الإفصاح عن أنّها ليست ملاكه؟ من يجرؤ على التشكيك في حنانها وعطفها... بالتالي أمومتها؟ ثمّة أشخاص يفعلون في سرّهم. هؤلاء لن يسمحوا أبداً لأنفسهم بالتصريح: "أنا لا أحبّها". تلك الكلمات الثلاث تبدو عنيفة جدّاً ومحرّمة. هي منحتنا الحياة. وتبقى أيقونة مقدّسة، ممنوع المساس بها.

"الأمّ مقدّسة اجتماعيّاً". هذا ما تؤكّده المتخصّصة الفرنسيّة في علم الاجتماع كريستين كاستولين - مونييه في تقرير نشرته مجلّة "بسيكولوجي" الفرنسيّة المتخصّصة في علم النفس تحت عنوان "هل نحن ملزمون بحبّ أمّهاتنا؟". من جهته، يوضح المعالج النفسيّ الفرنسيّ ألان براكونييه: "القول إنّ أمّنا سيّئة قد يدمّرنا. هي منحتنا الحياة، بالتالي قد تملك القدرة على منحنا الموت". ويتحدّث هؤلاء الذين يحاولون الغوص في النفس البشريّة، وكذلك أولئك الذين يعملون على سبر المجتمع وأحوال أهله، عن "دَين أصليّ" وما يلازمه من شعور بالذنب يرافقنا طوال أيّام حياتنا ويقيّدنا بكلّ واحدة من هؤلاء اللواتي منحنَنا الحياة.

"عندما يكون الطفل صغيراً، تكون أمّه بالنسبة إليه كائناً مثالياً قادراً على تلبية احتياجاته كلّها". هذا ما تشرحه المتخصّصة الفرنسيّة في علم النفس دانييل رابوبور. تضيف أنّه "عندما يدرك أنّها ليست كاملة، تقع الصدمة عنيفة. وكلّما كانت العلاقة سيّئة بين الولد وأمّه، يأتي وقع تلك الصدمة أكثر عنفاً، الأمر الذي يولّد في بعض الأحيان استياءً عميقاً يماثل الكره".



بالنسبة إلى براكونييه، "كلّ واحد منّا خبر لحظات حنق عنيف تجاه أمّه لأنّها لم تلبِّ رغبة لديه، لأنّها خيّبت أمله أو آلمته وجرحته (...) ثمّ قال: أنا أكرهها. لحظات العداوة تلك تأتي في السياق الطبيعيّ لنموّ الطفل". بين الولد وأمّه علاقة انصهار طبيعيّة، والمشاعر الحادة تأتي بحسب حجم الانصهار. قليلون هم هؤلاء الذين يقطعون جديّاً الأواصر بينهم وبين اللواتي منحنَهم الحياة. هم يرفضون لومهنّ ويحاولون إيجاد أعذار لهنّ وتبرير العلاقة السيّئة في ما بينهم.

"شيطنة الأمّ" أمر مرفوض في المجتمعات كافة، شرقيّة كانت أم غربيّة. تحميلها مسؤوليّة عثراتنا وتلك الأحمال التي نجرجرها على مدى سنيّ حياتنا أمر غير جائز. أليست هي "نبع الحنان"؟ أليست هي التي تضحّي من أجل فلذات كبدها؟ أليست هي معصومة عن كلّ سوء؟ تساؤلات تحتمل نقاشاً يطول...

المساهمون