القاش... الشريان المتفجر

القاش... الشريان المتفجر

14 مارس 2019
بعد فيضان النهر عام 2016 (أشرف شاذلي/ فرانس برس)
+ الخط -
الأنهار الموسمية والدائمة هي شرايين الأرض، تحمل الحياة من منابعها إلى مصباتها مانحة سر الوجود والبقاء على سطح الأرض. القاش نهر متمرّد ينتظره الناس في شوق، وهم يكلفون سواهم بالتعبد له في أغنياتهم "مين علمك يافراش.. تعبد عيون القاش؟". وهذه أغنية ردّدها أهل السودان منذ القدم، من دون أن يتوقف إلا القلة عند مغزى السؤال. فالإنسان مكلف بعبادة الخالق، ولكن للفراشات أن تتعبّد في عيون معشوقهم القاش، تتوسله النعمة إنابة عنهم.

القاش من أكثر الأنهار جموحاً، وينحدر من ارتفاع 1500 متر عند مرتفعات إرتيريا الساحلية، ويجري مسافة 300 كيلومتر قبل أن يدخل الحدود السودانية. لا يصب في رافد رئيسي ولا بحر أو محيط أو بحيرة أو أي مسطح مائي بل تصب مياهه في سهول رملية. أما في موسم الجفاف فهو عبارة عن واد رملي واسع. وتتعدى سرعة تيار المياه الأمتار الخمسة في الثانية الواحدة، ويحمل نحو 11 مليون طن من الطمي والعوالق. تستمر ثورة النهر 88 يوماً ما يهدد خلالها المنازل والمزارع، وقد يخلف من الخسائر الكثير.

الطمي المترسّب في كل عام في مجرى نهر القاش يتسبب في انسداد قنوات ري الدلتا، وارتفاع متزايد في مستوى قاع النهر، الأمر الذي يستوجب معالجات متواصلة. قبل أعوام، أخبرني أحد السكان أنه كان يستطيع المرور ممتطياً الجمل من تحت الجسر المقام على النهر في مدخل مدينة كسلا، إلا أن المسافة تقلصت إلى ما دون قامة الرجل، ما يعني أن الزيادة في تراكم الطمي في قاع النهر لا يحتاج إثباتها إلى أجهزة قياس.



اعتاد المزارعون والمهندسون وأهل المنفعة التعامل مع النهر بالترويض، من خلال العرّاضات التي حمت مجرى النهر والمدينة من أخطار فيضانه على مدى خمسين عاماً، قبل أن تدخل أيادي التدمير في عام 1992، عندما رفعت الحكومة المركزية يدها عن تمويل النشاط الزراعي فاضطربت إدارة النهر، وانقطعت الصيانة الهندسية الوقائية، وتناقص مخزون المياه الجوفية بسبب التوسع في الزراعة البستانية، وازداد بذلك بؤس مزارعي دلتا القاش.

في تقرير للهيئة القومية للغابات في عام 2002، ورد أن خمس من الغابات المحجوزة بمساحة 2.135 فدان قد وزّعت بواسطة السلطات الولائية على مواطنين حولوها إلى مشاريع زراعية، وليس خافياً ما قد ينجم عن إزالة الغابات في أعالي النهر من مخاطر تآكل ضفافه وتحوّل مجراه. وفي عبارة للخبير البيئي مهدي بشير، "لم يغّير القاش طبيعته.. ولكن تغيّر الإنسان، وأصدر قرارات غير مدروسة".

(متخصص في شؤون البيئة)

دلالات

المساهمون