احتجاز المهاجرين... تجارة مربحة للشركات في الولايات المتحدة الأميركية

احتجاز المهاجرين... تجارة مربحة للشركات في الولايات المتحدة الأميركية

05 فبراير 2019
احتجاج أمام مركز احتجاز بكاليفورنيا (روبين بيك/ فرانس برس)
+ الخط -

شكاوى وانتقادات كثيرة تطاول مراكز احتجاز المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة الأميركية، ولا سيّما تلك التي تديرها شركات خاصة بالتنسيق مع الجهات الرسمية ذات الصلة.

كشف موقع "ذي ديلي بيست" الأميركي أنّ حكومة واشنطن دفعت نحو 800 مليون دولار أميركي على أقلّ تقدير في العام الماضي لشركات خاصة تدير مراكز لاحتجاز للمهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة الأميركية. وتحتجز الولايات المتحدة المهاجرين الذين يصلون إلى حدودها على أمل اجتيازها بصورة غير قانونية، بمن فيهم الأطفال، في سجون يُطلق عليها رسمياً تسمية "مراكز احتجاز". يأتي ذلك وسط ظروف قاسية وغير إنسانية، دفع عدداً من هؤلاء المعتقلين المهاجرين إلى الانتحار بينما قضى آخرون من جرّاء إهمال الجهات التي تدير تلك المراكز، مثلما حدث في نهاية العام الماضي عندما توفي طفلان نتيجة عدم عرضهما على طبيب في الوقت المناسب.

يُدار أكثر من أربعين في المائة من "مراكز الاحتجاز" من قبل شركات خاصة، بينما وصل عدد المهاجرين غير الشرعيين المعتقلين في تلك المراكز في عام 2018 إلى نحو 45 ألف معتقل، وهو أعلى رقم يسجّل في البلاد. وبحسب تقديرات وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك بالولايات المتحدة الأميركية (آيس)، فإنّ العدد قد يصل إلى 52 ألفاً في هذا العام. واللافت في هذه التقديرات أنّها جاءت في خلال الأشهر التي يُصار فيها إلى المصادقة على ميزانيتها للسنة المالية التالية، وقد أظهرت تسريبات إعلامية أنّ لدى وكالة الهجرة والجمارك خطة سرية تنظّم بموجبها حملات اعتقال واسعة في داخل البلاد في فترة زمنية محددة، بهدف القبض على أكثر من ثمانية آلاف مهاجر غير شرعي وزجّهم في تلك المعتقلات قبل ترحيلهم بغية رفع أرقامها وعدد المحتجزين لديها، فتتمكن بالتالي من رفع ميزانيتها والتصديق على العدد الذي توقّعته للعام الجاري، أي 52 ألف مهاجر معتقل. لكنّها اضطرت في اللحظات الأخيرة إلى وقف تلك العمليات بسبب الأعاصير التي ضربت عدداً من الولايات في تلك الفترة.

ومدّة انتظار المهاجرين غير الشرعيين في مراكز الاحتجاز قد تستمر إلى حين البتّ في قضية حصولهم على لجوء، أي ما بين أشهر وسنوات أحياناً. في تقرير لمنظمة "ديتنشن ووتش نيتوورك" (شبكة مراقبة مراكز الاحتجاز)، وهي عبارة عن اتحاد لمنظمات حقوقية غير حكومية وأفراد تأسس في عام 1994، تصف ليسيت بينيدا وهي إحدى المهاجرات المحتجزات الظروف والخدمات في تلك المراكز بـ"المزرية وغير الإنسانية". وكانت بينيدا قد احتجزت مع ابنها البالغ من العمر 11 عاماً لنحو عام. تقول في شهادتها: "لقد جئنا إلى هذا البلد هاربين من الويلات في بلادنا، فوجدنا أنفسنا ونحن نُعامَل كمجرمين بينما كلّ ما رغبنا فيه هو تقديم طلب لجوء. نحن هربنا من العصابات بعدما قتلت صديقاً لابني، ويبدو أنّ الصدمة التي عشناها والتي يعاني منها ابني لا تكفي، وها هو يعيش اليوم صدمات جديدة. لم يعانِ ابني أمراضاً جسدية، لكن في الأشهر الأخيرة وخلال احتجازنا راح يعاني من صداع مستمرّ إلى جانب فقدانه الرغبة في القيام بأيّ شيء".

أميركيون يؤكدون: "لا يوجد إنسان غير شرعي" (Getty)

تقول المتخصصة الاجتماعية والباحثة الأميركية فاسوكي مايز لـ"العربي الجديد" إنّ "سجن المهاجرين الذين يرغبون في تقديم طلبات لجوء صارت تجارة مربحة لتلك الشركات بكل معنى الكلمة. وهكذا يتحوّل المهاجرون الباحثون عن حياة أفضل إلى مجرمين بين ليلة وضحاها بمجرّد دخولهم إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي يخالف كل الأعراف وحقوق الإنسان. لكن عندما ننظر إلى هذه القضية، لا بدّ من ربطها بأخرى تتعلق بقضية السجون الخاصة في الولايات المتحدة الأميركية". تضيف مايز: "وما يهمّ في هذا السياق هو الأموال التي تجنيها تلك الشركات الخاصة التي تدير مراكز الاحتجاز والسجون الخاصة حيث يُحتجَز أميركيون، وعلاقتها بالسياسيين الأميركيين وبالتبرّعات التي تُصرَف على اللوبيات في واشنطن وعلى الحملات الانتخابية". وتشير إلى "مشكلة إضافية وهي أنّ دافع الضرائب الأميركي لا يعرف دائماً ما الذي يحدث من حوله، ليس فقط لأنّ جزءاً من تلك المعلومات سريّ بل لأنّه مشغول بهمومه المعيشية الكثيرة".

في العام الماضي، قدّرت مجموعة "جي إي أو" أرباحها بـ 2.3 مليار دولار أميركي، وهي واحدة من الشركات التي تدير سجون خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، وقد أوكلت كذلك مهام إدارة جزء من مراكز احتجاز المهاجرين. وكانت هذه الشركة قد تبرّعت لحملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانتخابية في عام 2016 بأكثر من 280 مليون دولار. وأشار موقع "ذي ديلي بيست" إلى أنّ الحصول على أرقام رسمية حول حجم العقود بشكل مباشر من السلطات الأميركية المختصة صعب، ويمكن الحصول على جزء منها بطرق غير مباشرة، من ضمنها الميزانية التي تقدّمها وكالة الهجرة والجمارك. وبحسب "ذي ديلي بيست"، فإنّ ثمّة 19 شركة خاصة تقاضت من وكالة الهجرة والجمارك في العام الماضي أكثر من 800 مليون دولار. وتحتجز تلك الشركات الخاصة التي تدير مراكز الاحتجاز نحو 18 ألف مهاجر غير شرعي، أي نحو 41 في المائة من عدد المهاجرين المحتجزين في مراكز احتجاز المهاجرين. لكنّه من المتوقّع أن تكون الأرقام الحقيقة أكبر من ذلك.




وعند سؤال مسؤولين في "المركز الوطني للهجرة"، وهو منظمة غير حكومية، عن عدم توفّر أرقام واضحة في هذا السياق، يجيبون "العربي الجديد" أنّ "وزارة الأمن الداخلي التي تتبع لها وكالة الهجرة والجمارك لن تقدّم أيّ أرقام واضحة ورسميّة حول مراكز الاحتجاز تلك وعددها إلا عندما تُجبَر على ذلك عن طريق أحكام قضائية"، قائلين إنّ "الأرقام التي تنشرها على صفحتها الرسمية غير دقيقة".

في السياق، تشير دراسة صادرة عن "المركز الأميركي للهجرة" أنّ ثمّة أكثر من 638 مركز احتجاز واعتقال تديرها وكالة الهجرة والجمارك بشكل مباشر، بالإضافة إلى تلك التي تديرها الشركات الخاصة. لكنّ أرقام وزارة الأمن الداخلي الرسمية تشير إلى 250 مركز احتجاز تديرها الوكالة. وهذا الفارق بين الأرقام جزء من نقاش ساخن حول هدر الأموال وغياب الشفافية في عمل وكالة الهجرة والجمارك، على الرغم من توفّر تقارير رسمية صادرة عن مكتب مراقبة وزارة الأمن الداخلي تشير إلى عدم اتخاذ الوزارة الخطوات اللازمة لتأمين تعاقد يستوفي الشروط القانونية لمراقبة مراكز الاحتجاز. ويدين أحد تقارير مكتب مراقبة وزارة الأمن الداخلي وكالة الهجرة والجمارك، مشيراً على سبيل المثال إلى أنّها خالفت القوانين الأميركية عندما وقّعت في عام 2014 عقداً بقيمة مليار دولار أميركي مع شركة "كور سيفيك" لبناء مركز احتجاز في أريزونا وإدارته، وجدّدته في عام 2016.

ضدّ سياسات ترامب الخاصة بالهجرة (الأناضول) 

كذلك، أدّى غياب الشفافية إلى جانب تركيز الإعلام على بعض القضايا إلى مطالبة عدد من أعضاء الكونغرس بعدم المصادقة على الميزانية في حال لم تعتمد وكالة الهجرة على شفافية أكبر في ميزانيتها وعقودها. وعلى الرغم من بعض التقدّم المحقق وكشف الوكالة جزءاً من وثائقها، فإنّ الكونغرس يفشل عاماً بعد آخر في محاسبة الوكالة ويستمرّ بالموافقة على ميزانياتها الضخمة. يُذكر أنّ وكالة الهجرة اضطرت استناداً إلى قانون حريّة المعلومات الذي تمّ تبنيه في عام 1966 والذي يمكن من خلاله إجبار المؤسسات الحكومية على الكشف عن وثائق لم تكن متاحة من قبل مع تسجيل استثناءات، إلى كشف آلاف المستندات قبل أشهر. وتعطي تلك المستندات صورة أوضح لما يحدث في هذا السياق، لكنّ معلومات كثيرة تبقى ناقصة، خصوصاً تلك المتعلقة بالشركات الخاصة وطريقة عملها.

ويشير تقرير حديث أعدّته شبكة مراقبة مراكز الاحتجاز إلى أنّ الرأي العام الأميركي تنقصه عدد هائل من المعلومات، وجزء لا بأس به منها أساسي حول حجم استفادة الشركات الخاصة لإدارة السجون من إدارة مراكز الاحتجاز وتفاصيل في هذا الإطار. ويؤكد التقرير ذاته أنّ مليارات الدولارات تُصرَف سنوياً للشركات الخاصة التي تدير جزءاً من السجون الأميركية بالإضافة إلى مراكز الاحتجاز، لكنّ تفاصيل العقود بين الحكومة الفيدرالية وتلك الشركات غير متاحة. من جهتها، تلفت منظمات مدافعة عن حقوق المهاجرين إلى أنّ تلك المراكز تستفيد من عمل المحتجزين المجّاني، إذ إنّهم يتقاضون يومياً دولاراً أميركياً واحداً في بعضها، وتصنّف الشركات ما يقومون به كعمل "تطوّعي". وثمّة قضايا عدّة مرفوعة أمام القضاء ضدّ مجموعة "جي إي أو" من قبل مهاجرين كانوا محتجزين يتهمونها باعتقالهم وإجبارهم على العمل في ظروف صعبة. وقد رفضت كثيراً تقديم أيّ من احتياجاتهم الأساسية كالصابون والماء والطعام أحياناً، إلا في حال عملوا في مقابل الحصول عليها. لكنّ الشركة من جهتها ترفض تلك الادعاءات. وفي السياق نفسه، عمدت ولاية واشنطن إلى رفع دعوى ضدّ الشركة التي تدير عدداً من مراكز احتجاز المهاجرين والسجون الخاصة على أراضيها بعقود فيدرالية، كي تجبرها على دفع 11 دولاراً في الساعة، وهو الحدّ الأدنى لأجر العمل في الولاية.




وتفيد إحصاءات أخرى بأنّ المهاجرين غير الشرعيين يُحتجزون في مراكز خاصة لمدّة يصل معدّلها إلى 87 يوماً، في حين أنّ معدّل مدّة الاحتجاز قبل الترحيل أو قبول اللجوء تصل إلى 33 يوماً في مراكز احتجاز المهاجرين التابعة للحكومة. لكنّ هذه المعدّلات لا تعكس في بعض الأحيان الأرقام على أرض الواقع، إذ إنّ ثمّة تقارير تشير إلى أنّ عدداً لا بأس به من المهاجرين المحتجزين يقضي أشهراً أو أعواماً حتى في تلك المراكز. يُذكر أنّ 179 مهاجراً غير شرعي قضوا بين عام 2003 وعام 2018 في مراكز الاحتجاز، بحسب أرقام رسمية، 15 منهم توفّوا في مركز الاحتجاز في ولاية أريزونا التابع لشركة "كور سيفيك" الخاصة والمشار إليه آنفاً.