أطفال يألفون سمّاعات أقران لهم في لبنان

أطفال يألفون سمّاعات أقران لهم في لبنان... دمج في "مركز التعلّم للصمّ"

04 أكتوبر 2019
مفهوم الدمج في مدارس لبنان يُعَدّ حديثاً (حسين بيضون)
+ الخط -

ما بين دمج الأطفال السامعين مع أقرانهم الذين لديهم نقص في السمع، وبين اعتماد مقاربة منهج "مونتيسوري" التعليميّ، تبدو حضانة وروضة "مركز التعلّم للصمّ" في لبنان متمايزتَين عن سواهما.

في واحدة من غرف حضانة وروضة "يب إن يانكا" (Jip & Janneke)، كان "عمّو إلياس" يعلّم التلاميذ الصغار الذين جلسوا في حلقة على الأرض، أسماء الدجاجة والحصان والخروف والبقرة وغيرها بلغة الإشارة. هؤلاء الصغار الذين يتابعون تعليمهم في مرحلتَي الروضة ليسوا من الصمّ وليسوا جميعاً من الذين لديهم نقص في السمع، إلا أنّهم كانوا متحمّسين لما يقدّمه لهم "عمّو إلياس"، بحسب ما يُنادونه. وغير بعيد عن هؤلاء، في حديقة المبنى نفسه، مبنى "مركز التعلّم للصمّ" الواقع في بعبدا، شرقيّ العاصمة اللبنانية بيروت، كان صغار مرحلة الحضانة يستمعون إلى قصّة وقد استظلّوا ببعض الأشجار.

في البدء كانت الحضانة التي أُنشئت في عام 2003 وأُسميت "يب إن يانكا" تيمّناً بشخصيّتَين مشهورتَين في عالم أدب الأطفال الهولنديّ، ثمّ استُحدِثت الروضة لاحقاً. واختيار الاسم أتى كتكريم للأب أندويخ الهولنديّ الذي يُعَدّ رائداً في تعليم الصمّ في الشرق الأوسط من خلال المؤسسات التي أنشأها بالمنطقة. يُذكر أنّ الأب أندويخ الذي تأثّر بوالدته، وهي كانت تهتمّ بشؤون الصمّ نتيجة وقوع منزلهم إلى جانب مدرسة لهؤلاء، يُعَدّ الأب الروحيّ للدكتور حسين إسماعيل رئيس الاتحاد اللبناني للصمّ ومدير "مركز التعلّم للصمّ".



"لدينا هويّتنا الخاصة في الحضانة والروضة ونفتخر بها. نحن نحترم كلّ الهويّات الأخرى، غير أنّنا نتمسّك بما لدينا". هذا ما تؤكّده مسؤولة برنامج التدخّل المبكر في "مركز التعلّم للصمّ" نادين إسماعيل في حديث إلى "العربي الجديد"، موضحة أنّ "الحضانة والروضة خدمة من الخدمات التي يقدّمها المركز من ضمن برنامج التدخّل المبكر لعائلات الأطفال الذين لديهم نقص في السمع. بالنسبة إلينا، كلّما عملنا مبكراً مع العائلة، نكون قد هيّأنا متاعاً للعمر كلّه". تضيف إسماعيل أنّ "من خلال الحضانة والروضة الدامجتَين، كان هدفنا أن نكون نموذجاً للتعليم الدامج، على أمل أن نخصّص في وقت لاحق قسماً خاصاً بالأطفال الذين لديهم نقص في السمع، غير أنّنا لم نتمكّن من ذلك لا مادياً ولا تقنيّاً".



إلى جانب الدمج الذي يميّز حضانة وروضة "يب إن يانكا"، هما يعتمدان مقاربة تعليمية من روحيّة منهج "مونتيسوري". وهذا المنهج الذي يبتعد عن التعليم المعتاد في لبنان، كانت قد وضعته الطبيبة والمربّية الإيطاليّة ماريا مونتيسوري، وهو بحسب ما تشرح إسماعيل يحترم كلّ طفل بحدّ ذاته. وهنا لا نتحدّث بالتأكيد عن الأطفال الذين لديهم نقص في السمع فحسب، إنّما كلّ طفل بهدف تنمية طاقاته بأكبر قدر ممكن واستثمارها إلى أقصى حدّ وتهيئته للحياة، وفي الوقت نفسه تحضيره ليكون مع الآخرين". تتابع أنّ "المعلّمات هنا يتدرّبنَ على تطبيق مقاربة مونتيسوري منذ الحضانة وكذلك على كيفيّة التعامل مع النقص في السمع". وتوضح إسماعيل أنّه في مقاربة منهج مونتيسوري، "نبدأ مع الأطفال بما نسمّيه الحياة العمليّة وتمارين الاتّكال على النفس، من قبيل أرتدي ثيابي بنفسي وأخدم نفسي بنفسي وأنقل الكرسيّ الخاص بي وأهتمّ بنظافة مستلزماتي وأحترم صفّي وأحترم المواد المختلفة (الخاصة باللعب والرسم وغير ذلك) التي تكون في متناول الجميع. فتلك المواد توضع على رفوف بمستوى الأطفال، حتى يكونوا قادرين على الوصول إليها بسهولة. من شأن ذلك أن يمنح الطفل استقلاليّة وثقة في النفس ويهيّئه ليكون جاهزاً للتعلّم الأكاديميّ. ونعمل كذلك على الشقّ الحسّي والشقّ الثقافيّ. مقاربة منهج مونتيسوري تحرص على كيفيّة تحضير الطفل من نواح مختلفة وليس فقط أكاديميّاً". وعن دمج مرحلتَي الروضة، تقول إسماعيل: "نحن نؤمن كذلك بخلط الأعمار، لأنّ الأصغر سنّاً يتعلّمون من الأكبر سنّاً والأخيرون يقدّمون المساعدة للأوّلين. هو نظام أو مقاربة أكثر طبيعيّة. وفي الحضانة، تتراوح أعمار الصغار الذين يتشاركون كلّ النشاطات، بين عام ونصف العام وبين ثلاثة أعوام. ونحن نستقبل الأطفال عندما يكونون قد تعلّموا المشي بثبات، وليس قبل ذلك، من أجل سلامتهم بالدرجة الأولى". وماذا بخصوص الشرخ المحتمل عند الانتقال من مقاربة منهج "مونتيسوري" إلى نظام التعليم التقليديّ المعتمد في المدارس اللبنانيّة؟ تجيب إسماعيل: "نحن نفكّر بذلك، بالتأكيد، ونعمل وقائياً للتخفيف من أثر ذلك، من قبيل اعتماد كتب تطبيقيّة لتحضير الصغار للمدرسة العاديّة. لكنّه من المؤسف أن يتوجّه أطفالنا إلى نظام تعليم تقليديّ جداً".




مفهوم الدمج في المؤسسات التربويّة في لبنان يُعَدّ حديثاً، لذا لا بدّ من السؤال عن مدى تقبّل أهل الأطفال السامعين اختلاط أولادهم بأطفال لديهم نقص في السمع. فتؤكّد إسماعيل أنّ "من يختارنا منفتح أكثر على التنوّع وتقبّل الاختلاف بأشكاله"، لافتة إلى أنّ "الأطفال الذين استقبلتهم الحضانة والروضة في البداية كانوا بمعظمهم من عائلات أجنبيّة، لكنّ اليوم العائلات اللبنانيّة تقصدنا أكثر فأكثر. والاختلاف هنا ليس محصوراً فقط بجنسيّات الأطفال وبواقع أنّهم من السامعين أو من الذين لديهم نقص في السمع، بل يأتي على مستويات عدّة ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة". تضيف: "لم نضطر في يوم إلى القيام بعمليّة حسابيّة لاستقبال الأطفال بهدف تأمين الدمج، بل يأتي ذلك طبيعيّاً. واليوم كثيرون هم الأهل الذين يدركون أنّ هذا الأمر صحيّ، فقبل ذلك كنّا نضطر إلى الشرح، لا سيّما أنّه من غير البديهيّ بالنسبة إلى البعض أن يكون الطفل في حضانة أو روضة في إطار جمعيّة. اليوم، ثمّة وعي أكبر لدى الأهل من جهة، ومن جهة أخرى أثبتنا جودة ما نقدّمه".



بالنسبة إلى إسماعيل، "نحن لم نبلغ بعد ما نهدف إليه، غير أنّنا على الطريق وملتزمون بمنهجنا الذي يحترم كلّ طفل بحدّ ذاته ونعمل على قدراته وطاقته ونمنحه كلّ الدعم اللازم. كلّ طفل مختلف عن الآخر، وهذا الاختلاف محترم". وتشدّد إسماعيل: "نحن موجودون من أجل الطفل وليس من أجل أهله. لذا فإنّ دوام الحضانة قصير بالمقارنة مع دوامات الحضانات الأخرى. صحيح أنّنا في حاجة إلى كلّ قرش، غير أنّنا لا نستطيع مناقضة أنفسنا، فمصلحة الطفل هي أولويّتنا. نحن موجودون لتغيير مفهوم سائد حول التعليم. بالنسبة إلينا، نحن نحلم أن يعمد المعنيّون في لبنان إلى حماية العائلة، من خلال عدم اضطرار الأمهات إلى العمل بعد دوام مدارس أولادهنّ. من دون دعم، سوف تبقى الأمهات مضطرات إلى العمل لوقت طويل، وهو ما يؤثّر سلباً على العائلة وبالتالي على المجتمع ككلّ".



وماذا عن تواصل الأطفال بعضهم مع بعض؟ هو "ممتاز" بحسب إسماعيل، فمجرّد "تأمين جوّ صحيّ لهم، فإنّهم بأنفسهم يراعون الآخرين. مثلاً، كانت ثمّة فتاة لا تتكّلم إلا اللغة الفرنسيّة، بحكم جنسيّتها، لكنّها كانت هنا تتكلّم مع زميلتها التي لديها نقص في السمع باللغة العربيّة، لأنّ الأخيرة تعرف هذه اللغة". وفي السياق نفسه تقول دارين، وهي معلّمة اللغة العربيّة والمسؤولة كذلك عن "الحياة العمليّة" والأشغال اليدويّة، إنّ "ثمّة أجانب كثيرين لا يتحدّثون بالعربيّة، غير أنّهم يتواصلون مع الآخرين بها، وهذا أمر يفاجئنا". تضيف أنّ "الأطفال السامعين يستغربون بداية سمّاعات زملائهم الذين لديهم نقص في السمع ويسألون عنها من باب الفضول، فنجيب من يسألنا أنّ تلك السمّاعات هي تماماً كما النظّارات. واليوم، صار الأمر مألوفاً، لا بل طبيعيّاً".




تجدر الإشارة إلى أنّ الأطفال لا يقضون الوقت كلّه معاً، فثمّة حصص خاصة بالأطفال الذين لديهم نقص في السمع. وهذا "أمر ضروريّ" بالنسبة إلى إسماعيل التي تشرح أنّه "في خلال تلك الحصص يتواصل الأطفال مع المتخصّصة في النطق ويتابعون ما يعنيهم دون سواهم. بالتالي، فإنّ ثمّة صفوف اللغة تكون منفصلة، وبحسب مستوى الأطفال، كذلك الأمر بالنسبة إلى تدريب السمع. أمّا في صفّ الرياضيّات على سبيل المثال، فالدمج ممكن بسهولة". تكمل: "كذلك من الضروريّ أن يضمّ الصفّ أكثر من طفل لديه نقص في السمع. فمن المهمّ أن أجد طفلاً آخر يشبهني، إذ إنّ من شأن ذلك أن يؤكّد بطريقة ما هويّتي، والأمر كذلك بالنسبة إلى وجود بالغين لديهم نقص في السمع في الأرجاء. ونحن نحلم بالعثور على معلّمة لديها نقص في السمع". وتكمل: "في مقاربتنا، ثمّة عمل فرديّ وثمّة عمل في مجموعات صغرى وثمّة عمل في المجموعة الكبرى. وهذا يسهّل عمليّة الدمج ويعزّز احترام كلّ طفل لذاته. وفي مقاربتنا، لا توجد منافسة. كلّ طفل يُخرج ما في داخله، وليس ليسبق غيره. ففي المنافسة، ثمّة ظلم للطفل الذي يعاني من صعوبات معيّنة. ثمّ، لماذا يتوجّب عليهم أن يتسابقوا؟ عدم الفرض يجعل الطفل يعطي أفضل ما عنده، فيما الضغط عليه يوتّره ويعرقله ويجعله يتراجع".

دلالات