قصة "مبنى غندور" فسحة الثائرين في طرابلس اللبنانية

قصة "مبنى غندور" فسحة الثائرين في طرابلس اللبنانية

25 أكتوبر 2019
طُليت إحدى واجهاته بألوان العلم اللبناني (عمر العمادي)
+ الخط -

ليست مدينة طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، وحدها التي استفاقت من سبات فُرض عليها لعقود من الزمن، إنّما الأمر كذلك بالنسبة إلى كلّ شاهد من شواهد المدينة اللبنانية. وها هو "مبنى غندور" ينفض الغبار عن نفسه كذلك.

قبل أكثر من 25 عاماً، عندما بدأ تشييد مبنى غندور في ساحة عبد الحميد كرامي أو "ساحة النور" في مدينة طرابلس، شمالي لبنان، كان من المقرّر أن يكون فندقاً "خمس نجوم" يستقبل زائري المدينة. لكنّ أعمال البناء توقّفت فيه سريعاً وتحوّل إلى مبنى مهجور، ليبقى على حاله تلك طوال الأعوام المنصرمة. لكن، مع انطلاق انتفاضة لبنان في طرابلس، تبدّل المشهد فحلّت فيه "الثورة" كأوّل النزلاء.

يقول أحد أعضاء بلدية طرابلس، وقد فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، إنّ "أشخاصاً من آل غندور استحصلوا على قرض مصرفي لتمويل مشروعهم هذا، ورُهن المبنى للمصرف الذي فتح له فرعاً في الطبقة الأرضية منه. بعد فترة، تبيّن للمالكين أنّ قيمة القرض أعلى بكثير من قيمة المبنى، فقرّروا وقف الأعمال فيه ومنحه للمصرف في مقابل التوقف عن سداد المتوجّب عليهم. لكنّ الأسعار عادت وارتفعت، فبيع المبنى لمالك جديد ورث الدعاوى القضائية التي وضعت آل غندور في مواجهة المصرف".

ومع مرور الأعوام وارتفاع أسعار العقارات، صار مبنى غندور من أبرز المباني في المدينة وأغلاها، فهو الوحيد الشاغر في قلب طرابلس الذي يختنق بالمباني القديمة والجديدة على حدّ سواء، عدا عن أنّه يطلّ مباشرة على ساحة عبد الحميد كرامي بواجهات عريضة وطبقات عالية الأسقف. يُذكر أنّ المبنى لم يدخله طوال الأعوام الماضية إلا عدد من الفقراء المتعبين الباحثين عن بعض سكون وعن سقف يؤويهم.




ويشبه مبنى غندور مدينة طرابلس، كأنّه عيّنة مصغّرة عنها. فالمبنى الضخم وُعد بـ"النجوم" فيما وُعدت طرابلس، وهي ثاني كبرى مدن لبنان بعد بيروت، باستعادة دورها كعاصمة ثانية للبنان. وحكاية مبنى غندور تتشابه إلى حدّ التماهي مع حكاية مدينة طرابلس المهمّشة والمهجورة والمنسيّة لأنّ المسؤولين عن بنائها والمحافظة عليها وازدهارها هم كذلك على خلاف في ما بينهم. بالتالي، يرمز المبنى الواقع وسط المدينة إلى المشكلات العالقة التي لا حلّ لها في ظلّ عدم السعي الجدّي إلى إخراجه من عنق الزجاجة. هو رمز للمدينة التي تفتقر إلى الحركة، والتي لا تجد يداً تساعدها على النهوض عند تعثّرها، ولا مَن يقلق على وضعها المتدهور الآيل إلى السقوط.

وقلب المبنى ليس أفضل حالاً من واجهاته الرمادية الباهتة، فأرضيّاته تملأها الفجوات الكبيرة لأنّ أعمال البناء فيه لم تكتمل، الأمر الذي يشكّل تهديداً كبيراً لسلامة الداخلين إليه للمرّة الأولى، خصوصاً في ساعات الليل. كذلك هي طرابلس، كلّما توغّل زائرها في وسطها واتّضحت له مظاهر الفقر والحرمان. لكنّ الثورة أعادت المبنى إلى الواجهة، أي إلى مكانه الأصلي، تماماً مثلما أعادت طرابلس إلى قلب الشمال كمحطّ لأنظار اللبنانيين وغير اللبنانيين. وكثيرون هم الذين لاحظوا كيف أعادت "الثورة" المبنى إلى الحياة، هذا المبنى الذي كان منسياً كأنه غير حاضر أساساً في "ساحة النور"، فلا أحد ينتبه إليه حتى الناظر في اتجاهه لشدّة ما ذاب في المشهد إلى حدّ الاختفاء بالكامل. ويعلّق عضو البلدية نفسه: "تخيّلوا الثورة من دون مبنى الغندور! هل كانت لتكون؟".

ومبنى غندور تحوّل منذ اليوم الثاني من انتفاضة لبنان، عندما اتّخذت انتفاضة طرابلس منحى جديداً، إلى منصّة فعليّة لـ"الثورة". كأنّه وجد لنفسه وظيفة بعد أعوام طويلة من الملل من جرّاء فراغه، سواء لجهة الزائرين أو لجهة أيّ حدث قد ينتشله من النسيان. فسرقت الأنظار شرفةُ طبقته الأولى المؤلفة من أرضية صغيرة لا أساسات لها ولا حتى حافة إسمنت تحمي الواقفين عليها من السقوط. على هذه الشرفة، وقف إعلاميون من مؤسسات لبنانية وعربية ينقلون صورة طرابلس الحقيقية التي لطالما غابت عن شاشاتها وعناوين صفحاتها. وعلى الشرفة نفسها، وقف الخطباء بالحشود ليندّدوا بالقائمين على المدينة والمسؤولين عن تبديد أحلامها، هاتفين "ثورة... ثورة... ثورة". ومن على هذه الشرفة نفسها، شهدت طرابلس حفلتها الموسيقية الأولى في الهواء الطلق، منذ عقود طويلة، فرقص الفقراء والمنسيون والشباب العاطلون من العمل وأبناء الأحياء الأكثر تهميشاً على أنغام أغان ثورية بثّها مشغّل الموسيقى مهدي كريمة.



في خلال ساعات قليلة، انتبه الجميع للمبنى كأنّه وُضع هنا أمامهم في لحظة واحدة. فتوجّهت أنظار الحشود إلى مبنى غندور، خصوصاً بعدما طُليت إحدى واجهاته بألوان العلم اللبناني مع عبارتَين، أبرزهما: "طرابلس مدينة الحرية". بالتالي، علت الأصوات مطالبة السلطات المحلية بوضع اليد على هذا المبنى والاستفادة منه بشكل أو بآخر، فهو انتفض على الإهمال وعلى الوعود الفارغة بجعله فندق "خمس نجوم"، ووجد لنفسه وظيفة جديدة: فسحة للثائرين في "ساحة النور"... نجمة الساحات.