"ورقة نعوة"

"ورقة نعوة"

01 فبراير 2019
... لروحها السلام (الأناضول)
+ الخط -

في زمن مضى، كلّما أحضر واحد من رجال ضيعتنا أو من رجال ضيعة مجاورة ظرفاً من تلك الظروف التي يختلف لونها الأبيض عن بياض سواها، كنتُ أهرع وأتسمّر بالقرب من متسلّمه في انتظار فتحه. فضولي كان من دون شكّ يدفعني إلى معرفة الاسم المطبوع بأحرف غليظة سوداء على الورقة المظروفة، غير أنّ أمراً آخر كان يحرّكني حينها. كنتُ أنتظر لحظة بحدّ ذاتها. هي لحظة إخراج "ورقة النعوة" وشرم طرفها العلويّ الأيمن بسرعة، قبل الاطلاع على مضمونها... تحديداً الاسم المطبوع بأحرف غليظة سوداء. تلك الحركة كانت تستحوذ عليّ، كأنّما هي طقس مقدّس ما.

لا أذكر كم كنتُ أبلغ من العمر عندما اكتشفتُ السبب وراء ما عددتُه طقساً يوماً، ولا كيف فعلتُ ذلك. لكنني حفظتُ جيّداً، منذ ذلك الحين، أنّ شرم الطرف العلويّ الأيمن من "ورقة النعوة" وبسرعة، أمر لا بدّ منه حتى لا يصيب العائلة أيّ مكروه. كم وددتُ لو أقوم أنا بذلك الأمر "الساحر". لم يكن ذلك مسموحاً. نحن الصغار، كان يحقّ لنا فقط تسلّم "ورقة نعوة" في حال حملها ليون البوسطجي، ثمّ تسليمها إلى أحد الكبار. وليون اعتاد إحضار "نعوات" تخصّ أشخاصاً ليسوا من الأقربين.

كان ذلك قبل سنوات طويلة. اليوم، لم تَعُد "أوراق النعوة" دارجة. عدد قليل منها يُطبَع، وقد خُصّص للوحات إعلانيّة محليّة أو لمراسلات رسميّة. اليوم، صار النعي عبر "فيسبوك" و"واتساب" وغيرهما من تطبيقات إلكترونيّة ومواقع تواصل اجتماعيّ... أسلوب لا أستسيغه. اليوم، لن يضطرّ أيّ صغير إلى السؤال عن "طقس" لم يشهده.




قبل أيام، في تلك العشيّة، لم أفتح ظرفاً لأُخرج منه "ورقة النعوة" تلك. لم أشرم طرفها العلويّ الأيمن بسرعة، مثلما علّمتني جدّتي لأبي في زمن مضى، بل عمدتُ إلى طيّ تلك الورقة وأخرى ثمّ وضعتُ كلّ واحدة منهما في ظرف. ما زال بياض ذلك النوع من الظروف يختلف عن لون سواه. لستُ أدري إن كان كاهن ضيعتنا والمسؤولة الإداريّة في تلك المؤسّسة قد لجآ إلى ذلك الطقس عند تلقّيهما "ورقتَي النعوة". لستُ أدري إن كانا يعهدان ذلك الطقس في الأساس. ما أعرفه جيّداً هو أنني لم أعد من بين هؤلاء الصغار الممنوعين منه. لم أعد تلك الصغيرة التي راحت في أكثر من مرّة، ومن بعيد، تراقب رجالاً انهمكوا في نَصّ "نعوة" أو أخرى وتقاسموا مهامّ توزيعها. صار في إمكاني فتح "نعوات" مظروفة، وأكثر من ذلك... صار في إمكاني إرسالها.

في تلك العشيّة، حملتُ "أوراق النعوة" التي طُبعَ عليها اسم سلمى بأحرف غليظة سوداء. كنتُ كمَن لملم ذاته وسط خدر ومضى يؤدّي واجباً جللاً. أنهيتُ مهمّتي، واحتفظتُ بواحدة للذكرى. لم أشرم طرفها العلويّ الأيمن. المكروه حلّ بالعائلة. سلمى رحلتْ. لا جدوى من ذلك الطقس، وإن ما زال يسحر الصغيرة في داخلي.

المساهمون