قرى الأشباح في أوروبا... منازل مجانية ومال لجذب السكان

قرى الأشباح في أوروبا... منازل مجانية ودعم مالي لجذب السكان

30 يناير 2019
نزح كثيرون من قرى في شمال إيطاليا (Getty)
+ الخط -


تحولت قرى كثيرة في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وسويسرا إلى مناطق مهجورة لأسباب اقتصادية خصوصاً، وهو ما دفع باتجاه جذب السكان إليها بعروض قد تبدو خيالية في أحيان كثيرة

تزداد في أوروبا عروض جذب السكان إلى القرى شبه المهجورة، فلم يعد هذا الاتجاه الجديد حكراً على جنوب القارة، بل صار أكثر انتشاراً في مناطق كان كثيرون يحلمون بالانتقال إليها، بسبب طبيعتها الخلابة، إن في سويسرا أو في شمال إيطاليا وفرنسا، بل حتى في ليفربول الإنكليزية.

حين يقرأ الفرد إعلاناً عن إمكانية تملّك بيت بيورو واحد فقط، ربما يظن أنّها مجرد مزحة أو محاولة احتيال تنفذها عصابات، لكنّ الحقيقة مغايرة لذلك تماماً. فمنذ سنوات، يتلقى الأوروبيون عروضاً حقيقية لتملّك منزل مقابل دفع يورو واحد فقط لا غير، فما السرّ في ذلك؟

في العام الماضي ازدادت هذه العروض، وباتت أكبر، حتى وصلت إلى حدّ منحك مبلغاً مالياً يصل إلى تسعة آلاف يورو إن قبلت الانتقال إلى قرية صغيرة في جبال الألب في الشمال الإيطالي، مثلاً. الاتجاه لبيع وشراء منازل بهذه الطريقة، وإن كانت متهالكة في بعض الأحيان، وتحتاج إلى ترميم أو إعادة اعمار، ليس بالأمر الجديد. ففي المدينة الصناعية القديمة ليفربول الإنكليزية بدأ العرض عام 2013، وكان تحت عنوان: "تملّك منزلاً مقابل جنيه إسترليني واحد" والشرط الوحيد أن تنتقل إليه لتعيش وتعمل في المدينة لمدة خمس سنوات، هذا بالطبع إلى جانب أنّ المنتقل سيحتاج إلى نحو 40 ألف يورو (بحسب سعر الصرف السابق للجنيه الإسترليني) لإصلاح المنزل، لكنّه في النهاية سيكون ملكه.

ما ينطبق على ليفربول، ينطبق أيضاً على مدينة روبيه الفرنسية الواقعة في شمال فرنسا، والقريبة من الحدود البلجيكية، فهي أيضاً مدينة صناعية قديمة، عرفت بعاصمة صناعة النسيج. روبيه اليوم واحدة من أفقر مدن فرنسا، والبطالة فيها تصل إلى 30 في المائة، وفقاً للسلطات المحلية الفرنسية، فيما الفقر يصل إلى نسبة 45 في المائة من سكانها، بحسب معايير الدخل المقدرة بنحو ألف يورو شهرياً. ومنذ يناير/ كانون الثاني 2018 اختارت بلدية المدينة الفرنسية عرض منازل حي العمال القديم، المعروف باسم "بيل" للبيع مقابل يورو واحد، للمنزل الواحد، بهدف إعادة الحيوية إلى المدينة، واستعادة جزء من ماضيها الصناعي والتجاري المزدهر، كما تعبّر الخطوة عن هاجس لدى البلدية وخشية من هجرة المدينة مستقبلاً وتحولها إلى مدينة أشباح بالكامل.



تبرز إذاً الخشية من تناقص وهجرة السكان كواحد من أهم دوافع هذه المدن الأوروبية لجذب المواطنين إليها إذ تستلهم أفكاراً عدة في هذا الصدد.
في إيطاليا يبدو أيضاً أنّ العام الحالي 2019 سيشهد مزيداً من العروض. وهي عروض لا تشمل فقط مواطني البلاد، بل من الممكن للأوروبيين أن يتملّكوا تلك المنازل، إذا ما استجابوا للشروط البسيطة: عمل وسكن في المنطقة.

آخر تلك العروض قدمها في منتصف يناير/ كانون الثاني الجاري، رئيس بلدية تورينو في شمال إيطاليا، جيوفاني برونو ماتيت، لمن يريد شراء منزل بيورو واحد في قرية لوكانا. العرض لامتلاك منزل في منطقة ساحرة في مقاطعة بيدومنت بطبيعتها وبحيراتها الخلابة وجبال الألب المحيطة بها، يضاف إليه تعهد من البلدية بدفع نحو 9 آلاف يورو للمشتري كي يقيم في لوكانا، والشرط الوحيد الذي يضعه ماتيت "أن تكون متزوجاً ولديك طفل على الأقل ودخل سنوي بـ6 آلاف يورو كحد أدنى". ومن الممكن للمقيم في لوكانا أن يسكن فيها ويعمل في المدينة الكبيرة القريبة بنحو ساعة، تورينو، أو حتى العمل في سويسرا أو فرنسا القريبتين.

انضمام قرى في شمال إيطاليا إلى عروض التمليك شبه المجانية والمجانية للمساكن، يشير، بحسب خبراء التحول الديموغرافي الأوروبي، إلى أنّ "هجرة الشباب من الريف" بدأت تثير القلق، خصوصاً مع زيادة في أعداد من هم في سن الشيخوخة المتروكين وحدهم في تلك المناطق النائية. في لوكانا انخفض عدد السكان من 7 آلاف إلى 1500 فقط "بسبب نزوحهم منها بحثاً عن عمل في مصانع تورينو الكبيرة" وفقاً لماتيت. ويخشى رئيس البلدية أن "تقفل المدارس أبوابها إذ لم يعد هناك عدد كافٍ من التلاميذ، وهو ما لن أسمح به".

وغير بعيد عن تورينو، عُرضت عام 2014 قرية كالسازيو للبيع بمنازلها الحجرية التاريخية، رغبة من السكان في أن يتولى المشترون الاستثمار والتطوير فيها بما يتناسب مع تاريخها. وهكذا فإنّ أزمة النزوح عن القرى باتت تحول بعض المناطق في إيطاليا إلى أشبه بالخالية ومنعدمة الحياة.

جنوباً أيضاً، حيث يتقاطر السائحون، الوضع مشابه في جزيرة صقلية. ففي سامباكا يمكنك شراء منزل مجاناً من مجلس المدينة الذي يملك المنازل فيها، ويعد رئيس بلديتها، جوزيبي كاسيوبو، بجعلك تمتلك المنزل على الفور. وفي صقلية، كلّ ما هو مطلوب من المالك الجديد أن يستثمر نحو 15 ألف يورو لترميم المنزل خلال 3 سنوات، أي يمكنك استخدام 5 آلاف يورو سنوياً ليصبح منزلاً مرمماً. وبالإضافة إلى ذلك، ستدفع 6 آلاف يورو كوديعة تبقى لك كالتزام منك على تنفيذ عقد الملكية. بمعنى آخر، يمكن تملّك منزل بنحو 20 ألف يورو في أجمل مدن الآثار العربية في الجزيرة المتوسطية التي تعج بالسائحين والطبيعة الدافئة في الجنوب الأوروبي. وسامباكا لا تبعد عن مطار باليرمو (عاصمة صقلية) سوى 80 كيلومتراً مروراً بعاصمة المافيا التاريخية، كارليوني.

وكانت جانجي في باليرمو قد شهدت عامي 2016 و2017 حالة شبيهة إذ عرضت منازل للبيع مقابل يورو واحد سعياً لجذب سكان إليها. وكلّ ما يتطلّبه الأمر من المشتري في منطقة يظهر منها جبل بركان إيتنا الشهير، أن يضع تأميناً بـ5 آلاف يورو لتنفيذ التزامه بترميم المنزل الذي يختاره. ويمكن له ألاّ يقيم دائماً فيها، بل يستثمر المنزل كسكن صيفي وسياحي لزائري المنطقة الشهيرة بالحرف اليدوية منذ القدم. تكلفة الترميم لمنزل كبير محاط بأرض واسعة قد تصل إلى 75 ألف يورو، لكنّه سيصبح ملكاً لمن يوقع العقد مع البلدية. وقد فرغت نصف بيوت جانجي بعد هجرة نحو نصف سكانها.



وفي الجنوب الإيطالي أيضاً تقدم بلدة كانديلا عروضاً مشجعة لمن ينتقل إليها، وذلك من خلال منحه هدية مالية مقدارها ألفا يورو، والشرط الوحيد أن يكون الانتقال دائماً وأن يملك الشخص عملاً ثابتاً. وهو ما تعرضه بلدة بومبيدا لتشجيع الناس على السكن فيها أيضاً.

.....

كلّ هذه العروض تعتبر "إنقاذية" في المناطق التي تنتشر فيها البيوت المهجورة. ففي دراسة إيطالية تعود إلى عام 2016 يظهر أنّ البلد يضم نحو 2500 بلدة مهجورة كلياً أو جزئياً. وتأتي كلّ هذه المحاولات بعد نحو ثلاثة عقود من ترك المجتمعات الصغيرة في إيطاليا باتجاه المدن. فقد نجم عن ذلك تحول 139 بلدة إيطالية إلى شبه مهجورة، بعدد سكان أقل من 150 قاطناً للبلدة الواحدة، عدا عن تلك التي انخفض سكانها من 10 آلاف إلى بضع مئات فحسب.

كذلك، تعاني دول أوروبية أخرى، من الأمر نفسه، كما في حالة ألبين السويسرية في منطقة جبال الألب التي قررت أن تكافئ الوافدين الجدد إليها بنحو 25 ألف فرنك سويسري (22 ألف يورو)، والشرط الذي تضعه، إلى جانب أن يكون سنّ المتقدم أقل من 45 عاماً، هو أن يقيم في المنطقة عشر سنوات. وهناك محاولات أخرى في إسبانيا، خصوصاً في أرياف الأندلس لاستعادة الحياة في قرى مهجورة من خلال جذب الجيل الشاب إليها وإعادتها إلى خريطة الحياة.