مكتبات سورية... أمجاد تاريخ

مكتبات سورية... أمجاد تاريخ

08 سبتمبر 2018
تاريخ من المكتبات في سورية (رافاييل غاياردي/ Getty)
+ الخط -
قبل الاطلاع على واقع المكتبات العامة في سورية بعد ثماني سنوات من الحروب المدمرة التي عاشتها البلاد، لا بد من باب المقدمة الإشارة إلى العمق التاريخي للمكتبة في تاريخ مدن بلاد الشام منذ أقدم العصور، إذ بينت الحفريات المتعددة إيلاء المكتبة اهتماماً خاصاً طوال العهود القديمة المتعاقبة التي عرفتها البلاد.

في أوغاريت، اكتشفت مكتبة مهمة في حي الترف. بالرغم من أنّ معظم محتوياتها مكتوبة باللغة الأوغاريتية، إلّا أنها شملت كتابات بالسومرية والحورية والقبرصية والكريتية والهيروغليفية والحثية. يعود ذلك إلى أنّ أوغاريت كانت مرفأ يجتذب إليه تجاراً وبعثات من هذه الشعوب.

كذلك، اكتشفت مكتبة غنية في تل مرديخ تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ووصل عدد ألواحها إلى نحو 17 ألف لوح، لكنّ معظمها يتحدث عن معاملات تجارية وتبادلات بين التجار.

في أوغاريت، عُثر أيضاً على مكتبة شخص من المدينة يدعى رابعانو، وقد ترك في منزله الواسع مكتبة كبيرة وغنية ضمت وثائق منها لوحة تتضمّن أسماء أنواع الأسماك والنباتات والطيور المعروفة آنذاك، ويبدو أنّها جزء من كتاب مدرسي تعليمي. وشملت مكتبته ثبتاً لأنواع الأحجار والأوزان والأوعية والمنسوجات، ولائحة بأسماء آلهة المدينة وما يقابلها لدى البابليين، وألواحاً تشتمل على وصفات طبية مفصلة وآلية تحضيرها مخصصة للصداع والصرع والزكام والدوار ووجع الأسنان والبطن واعتلال العضلات والجلد وغيرها من الأمراض، بالإضافة إلى كيفية معالجة الخيول المريضة. ولعلّ الأهم ضمن هذه القائمة هو معجم لغوي يضمّ الكلمات والألفاظ الأوغاريتية، وما يقابلها باللغات السومرية والبابلية والحورية والأكادية. وفي مكتبة أخرى في الحي الجنوبي للمدينة عُثر على مكتبة أدبية تتضمّن مقطوعة موسيقية، هي الأقدم في تاريخ علاقة الإنسان مع الموسيقى، وعلى قصائد ونصوص دينية وأساطير وكلّها مصاغة كمقطوعات شعرية. وعثر الباحثون على مكتبة يعتقد أنّها كانت ملكاً لأحد الكهنة أو العرّافين الذين يقصدهم الناس لمعرفة ما تخبئ لهم الأقدار من مفاجآت، وهي جاءت كنوع من الأسئلة والأجوبة التي صادفها الكاهن خلال حياته المهنية.

في العصور اللاحقة، نعثر أيضاً على ما يشير إلى الاهتمام بالمكتبات والمقتنيات الأدبية، وإذا كان المقام محدوداً للإحاطة بمعالم كلّ مرحلة، نشير إلى أنّ العهود الإسلامية بدءاً من المرحلة الأموية عرفت المكتبات، وكان أول مشروع مكتبة إسلامية مذكورة في المصادر التاريخية هي التي اقتناها الأمير خالد بن يزيد بن معاوية، إذ يتحدث أكثر من مؤرخ عن ولعه بالتأليف وجمع الكتب من مصادرها وترتيبها على رفوف وفتحها لمن يرغب، وأنّه عمل بالترجمة عن اليونانية.




صحيح أنّ دمشق شهدت مراحل مدّ وجزر على الصعيد السياسي والثقافي، لكنّ قيمة المكتبة كمخزن لما أنتجه العقل البشري ظلت محفوظة. وتعددت المكتبات في سورية دائماً، فهناك إلى جانب مكتبات المساجد والكنائس والأديرة ودور العبادة لكلّ من أتباع الأديان والمذاهب، مكتبات لدى الأسر في البيوتات المعروفة، خصوصاً منها ذات التراث العلمي والأدبي. وقد فتح أصحابها أمام من يقصدونهم صفحات مخطوطاتهم. ينسحب الأمر على العهود العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية إلى العثمانية. وهو ما لم تنفرد به دمشق بل شمل معظم المدن السورية، لا سيما حلب التي لعبت دوراً سياسياً وثقافياً مميزاً في تاريخ البلاد، نظراً لموقعها ومداها الجغرافي الواسع.

*باحث وأستاذ جامعي

المساهمون