رمضان الموصل... طقوس تجهد لطمس آثار الحرب

رمضان الموصل... طقوس تجهد لطمس آثار الحرب

29 مايو 2018
تمر رمضان حجز لنفسه مكاناً في المدينة(أحمد الربيعي/فرانس برس)
+ الخط -
قبل أقل من عام، تحرّرت مدينة الموصل من سيطرة "داعش"، غير أنّها ما زالت تئن من ألم الحرب في حين أنّ جثثاً كثيرة مطمورة تحت أنقاض مبانيها. مع ذلك، يصرّ أهلها على الاحتفال بشهر رمضان

لم تدع الموصل رمضان يحلّ عليها من دون أن تواكبه، أو تحاول على أقلّ تقدير، بالطريقة التي تليق به. وعلى الرغم من تحوّل ما تبقّى من هذه المدينة العراقيّة إلى أحياء سكنية شبه بدائية نتيجة ما خلّفته القذائف والصواريخ التي انهالت عليها من الطائرات والمدافع والدبابات، فإنّها أبت إلا أن تبتهج بالشهر الفضيل. وفي أسواق وشوارع المدينة التي كان قد استباحها تنظيم "داعش" والتي خلّفت الحرب فيها بصمات كثيرة، تصدح قراءات قرآنيّة بنغم عراقي من مكبّرات صوت تعود إلى ما تبقّى من مساجد، وتختلط مع أصوات الباعة الذين ينادون على بضائعهم من أطعمة وعصائر تحتاجها المائدة الرمضانية.

زاهر منعم من هؤلاء النازحين الذين عادوا إلى بيوتهم أخيراً، يخبر أنّه يحاول توفير "أجواء رمضان الموصل العتيقة التي عشقتها منذ طفولتي وحتى هروبي من المدينة مع عائلتي في عام 2014، بعد سيطرة داعش على المدينة". يُذكر أنّ "داعش" كان قد فرض سيطرته على الموصل في يونيو/ حزيران 2014، قبل أن يتمدّد ويسيطر على مدن ومناطق أخرى. وقد شملت سيطرته نحو ثلث أراضي البلاد.

يبيع خضاره في المدينة القديمة وسط الدمار (أحمد الربيعي/ فرانس برس)














قبل ستّة أشهر، عاد منعم إلى بيته في الجانب الأيسر من الموصل، بعدما أمضى نحو أربعة أعوام من النزوح في إقليم كردستان العراق، حيث حصل على عمل وسكن في مزرعة تقع في منطقة ريفية. يقول لـ"العربي الجديد": "افتقدت رمضان وتقاليده. هناك، كنت فقط برفقة عائلتي داخل بيت صغير وسط مزرعة واسعة. واليوم، أشعر بسعادة كبيرة لأنّني أعيش أجواء رمضان مرّة أخرى". لكنّه يستدرك: "على الرغم من ذلك، هذه الأجواء الرمضانية لا تشبه تلك التي كنا نعيشها قبل سيطرة داعش على مدينتنا". ومنعم الذي يعمل في بيع الأدوات المنزلية، حرص على تثبيت زينة رمضانية في محلّه، وعلى إشعال البخور الذي يملأ أرجاء المكان برائحته النفاذة المنعشة، مؤكداً أنّ "الناس بدأوا يعيدون أجواء رمضان إلى المدينة على الرغم من الدمار الذي يحيط بنا من كل جهة".

في الجانب الأيسر من المدينة التي يقسمها نهر دجلة إلى نصفَين، يبدو الوضع العام أفضل بكثير ممّا هو عليه في الجانب الأيمن الذي يعاني من تدمير شبه كامل. والسبب هو أحياؤه القديمة وشوارعها الضيّقة التي جعلته معقلاً مناسباً لتنظيم "داعش" إذ يصعب اختراقه، وهو ما جعل المعركة تطول كثيراً. بالتالي، فإنّ أهالي الجانب الأيمن لم يتمكّنوا من العودة إلى أحيائهم بعد تحريرها، بخلاف أهالي الجانب الأيسر الذي يعاني من أضرار أقل. يُذكر أنّ الجانب الأيسر من الموصل تحرّر في يناير/ كانون الثاني 2017، في حين أنّ القوات العراقية لم تتمكن من تحرير الجانب الأيمن إلا في يوليو/ تموز 2017.




عصائر وتمور
في أسواق الموصل، أمام محال تجارية كثيرة، تُعرض عبوات من العصائر التي تأتي بألوان زاهية. وتلك العصائر الطبيعية التي تتنوّع، تُصنع خصيصاً بمناسبة شهر رمضان. وأهل المدينة يفرحون بها، إذ تعيد إليهم أجواء كانوا قد افتقدوها إمّا خلال نزوحهم وإمّا تحت سيطرة "داعش".

حسن والي من أهل المدينة ولديه خبرة في تجهيز العصائر، فيقول إنّها "صنعة لها أسرارها". وبين عصائر السوس والتمر هندي والنومي بصرة والنارنج والبرتقال، يعرض والي أنواعاً من التمور، موضحاً لـ"العربي الجديد" أنّ كل ما يعرضه أمام محله هو خاص برمضان. يضيف والي: "أنا أبيع المواد الغذائية، لكنّني خبير في صناعة العصائر الطبيعية التي تشتهر بها المائدة الرمضانية. لذا، في شهر رمضان، أخصص طاولة أمام محلي لبيع ما أصنعه منها بالإضافة إلى التمر". ويتابع والي أنّ "أصحاب المحال التجارية يحرصون على إظهار الطقوس المرتبطة برمضان، فهي بالإضافة إلى كونها تعبيراً عن الفرح بشهر الصوم، فإنّها تشجّع الناس على الشراء".

إفطار جماعي في الموصل (زيد العبيدي/ فرانس برس)













فرح ناقص

لكنّ الأوضاع المعيشية الصعبة تبقى مانعاً أمام إظهار الفرح بشهر رمضان بصورة كاملة، ذلك الفرح الذي كان أهالي الموصل يعبّرون عنه قبل أن يعرفوا "داعش". كثيرون منهم خسروا منازلهم أو محالهم، في حين فقدت عائلات عدّة أربابها، وهؤلاء عادوا لبناء حياتهم من جديد. يُذكر أنّ عدداً كبيراً منهم يعتمد على معونات يحصل عليها من جهات تُعنى بالعمل الإنساني.

بشرى عز الدين فقدت زوجها واثنَين من أشقائها في قصف على الجانب الأيمن، وقد دُمّر منزل العائلة تماماً، وهذا حال معظم منازل هذا الجانب من الموصل. تخبر "العربي الجديد" أنّها هي والسكان الباقين بدأوا يعيدون الحياة إلى منازلهم، وقد تمكّنت بالفعل من ترميم منزل والدها الذي لم يُهدم بالكامل وسكنت فيه مع عائلتها. تضيف أنّه "على الرغم من كل ما نعانيه، فإنّنا لن نتخلى عن طقوس رمضان، وإن كنّا نمارسها جزئياً". وتتابع عز الدين أنّه "في كل يوم، أحضّر وجبة إفطار بسيطة وأرسلها إلى المسجد. الأهالي هنا بمعظمهم يفعلون هذا. أن نرسل طعاماً عند موعد الإفطار إلى المسجد طقس اعتدناه في الموصل. هناك، يجتمع رجال للصلاة ويفطرون إفطاراً جماعياً".

وتلفت عز الدين إلى أنّ "الجيران يتبادلون الطعام كذلك، وهذه العادة تنتشر في كل مدن العراق وتُعَدّ من طقوس رمضان المتوارثة". وتؤكد أنّ "الأحداث ومهما كانت مؤلمة ودموية، لن تغيّر طباعنا ولن نتخلّى عن طقوس رمضان. فهذا شهر البركة والدعاء والرحمة والمغفرة".

مقاهٍ وأسواق
فقدت الموصل على خلفيّة العمليات العسكرية، معظم معالمها التاريخية والتراثية ومساجدها الكبيرة المعروفة ومزاراتها المشهورة، ولعلّ أبرزها ضريح ومسجد النبي يونس الذي هدمه "داعش". وهو الأمر الذي جعلها تفقد المواقع والأماكن التي تستقطب الناس، لا سيّما الترفيهية منها.

منذ طرد "داعش"، راحت المقاهي الحديثة تنتشر وعادت الحياة لتدبّ في المنتديات الثقافية والمواقع الترفيهية التي تستقطب الشباب. يقول عزام هشام، وهو طالب جامعي، إنّ المقاهي الحديثة تمثّل بديلاً لمناطق الترفيه بالنسبة إليه وإلى شباب الموصل عموماً. يضيف هشام لـ"العربي الجديد" أنّ "الشباب وبعد أداء صلاة التراويح يتوجّهون إلى هذه المقاهي التي صمّمت بطابع شبابي حديث. وهي تقدّم مأكولات خفيفة ومشروبات ساخنة وباردة". ويشير هشام إلى أنّه "للنساء كذلك مواقع خاصة تستقطبهنّ في رمضان"، فهو يرافق والدته إليها. ويتابع أنّها "خاصة بالتسوق. فالعادة جرت أن تخرج النساء إلى الأسواق بعد صلاة العشاء، إذ تُفتح في رمضان لوقت متأخر من الليل. وهو من العادات الرمضانية في الموصل والمدن العراقية الأخرى. وقد أعيد إحياؤها بعد تحرير المدينة". ويوضح هشام أنّه: "في الجانب الأيسر، ثمّة مراكز تسوق حديثة فتحت أبوابها بعد تحرير المدينة، في حين أنّ الجانب الأيمن بدأ يفتح مراكز تسوق. كل هذه الأماكن توفّر فرصاً للنساء للخروج والاستمتاع بأجواء رمضان الليلية".

من جهة أخرى، يلفت هشام إلى أنّ "الأمن في الموصل مستتب بشكل كبير"، مؤكداً أنّ "المدينة لم تشهد مثل هذا الاستقرار الأمني منذ الغزو الأميركي للعراق في عام 2003". ويتحدّث عن مطاعم تفتح أبوابها حتى الفجر وتقدّم لزبائنها السحور، "وهذا تأكيد على عودة العادات الرمضانية في المدينة".




تجدر الإشارة إلى أنّ المظاهر الرمضانية بمعظمها هي في الجانب الأيسر من المدينة، بنسبة 90 في المائة، إذ إنّ أكثر الأحياء في الجانب الأيمن ما زالت في حاجة إلى رفع الأنقاض منها وفتح طرقاتها. فمخلفات الحرب تسيطر على المشهد هناك. وكانت مديرية الدفاع المدني قد أعلنت في بيان لها أصدرته أخيراً، عن انتشال 75 جثة من المدينة القديمة في الجانب الأيمن من الموصل. وقبل ذلك، سبق أن أعلنت المديرية أنّها بدأت أعمال انتشال جثث مسلحي تنظيم "داعش" من تحت ركام المباني في الجانب الأيمن، بعد انتشالها جثث المدنيين هناك. وقد اتهمت تقارير إعلامية طيران التحالف الدولي بدفن آلاف المدنيين تحت أنقاض مباني الموصل، نتيجة القصف الشديد والمكثف لاستهداف مسلحي التنظيم الذين كانوا ينتشرون في الأزقة الضيقة للمدينة القديمة. وحتى اليوم، بعد نحو 10 أشهر على انتهاء الحرب، ما زالت جثث القتلى تحت الأنقاض.