أرواح رع المقدسة

أرواح رع المقدسة

26 مايو 2018
فصل من كتاب الموتى (Getty)
+ الخط -


منذ أن تكونت المدن والدول والإمبراطوريات انتشرت المكتبات، ولمّا كان فجر الحضارة قد بزغ في أحواض أنهار النيل ودجلة والفرات، فقد عرفت مصر وبلاد الرافدين المكتبات باعتبارها من ضرورات ولوازم الدولة والحكم المركزي الذي تأسس فيهما قبل أي مكان من أنحاء العالم القديم. ففي مصر وعلى جدران المعابد والمقابر، نجد نقوشاً باللغة الهيروغليفية تتحدث عن الحياة والموت في مصر القديمة. كما نجد لفائف ورق البردى الفرعونية تتحدث عن المكتبة وتطلق عليها قائمة من المسمّيات مثل: "دار الكتب، دار اللفافات، بيت البرديات، مقر المخطوطات، ديوان الكتب، دار الكتب المقدسة، بيت الكتابات، بيت الكتب الإلهية وخزانة الكتب". وهي كلها تسميات لمسمّى واحد هو المكتبة، علماً أن وظيفتها تلك الأيام تختلف عن وظيفتها اليوم باعتبار أن قاعدة وأصول الحكم والحياة تختلف بشكل كامل.

الكثير من الآثار الفرعونية تؤشر إلى وجود طبقة من الكتاب، وإلى انشغالهم بالعمل في المكتبة وتدوين المحفوظات، وتمثال الكاتب جالساً القرفصاء وفي يده القلم والقرطاس ما يزال يأسر الألباب بما يحمله من معاني ودلالات. لكن وظيفة الكتابة لم تقتصر على كاتب الملك الإله، إذ إن الوزراء والقادة العسكريين ورؤساء البعثات الخارجية وحتى العامة كانوا يكتبون رسائل وتقارير يرسلونها إلى القصر مع البريد أو يحملونها بعد عودتهم. كما كان يفعل الشعراء والأدباء عندما يدونون مقطوعاتهم وأبياتهم. حتى إله الموت نفسه يظهر في النقوش المصرية وهو يمسك يوم الحساب بقلم يدوِّن فيه ما أتاه المتوفى من أعمال حسنة وأخرى سيئة، وفي ضوئها يصدر حكمه النهائي عليه.

ومكتبة اليوم متاحة أمام العامة، بينما مكتبة الأمس كانت مقتصرة على قسم من طبقة الكهنة التي تقوم على خدمة المعبد وسيده الملك الإله. وهي بهذا المعنى معنية بتتبع ما يريده منها الإله الحاكم الجالس على رأس السلطة والحلقة المحيطة به من مساعديه. إذن كانت المكتبات مخصصة لأمور عدة، بينها السجلات والمحفوظات الرسمية والوثائق المتبادلة مع حكام آخرين والمعاهدات المعقودة معهم، وكذلك تحصي كميات المحاصيل التي يتم جمعها، ومقادير الضرائب، ونفقات الجيوش، وتسجيلات مقياس حركة فيضان نهر النيل السنوية، والمتاجرة مع الخارج، والأوامر بتوجيه البعثات والهدايا المتبادلة مع الخارج، والحروب مع الدول الأخرى وغيرها من أمور.


لكن الأهم من كل ذلك كانت الكتابات المقدسة التي تتلى في المناسبات والأعياد الرسمية والمواسم أو الكتب والأناشيد الجنائزية. وكان المسؤول عن المكتبة يحمل اسم "سيد الكتابات السرية"، ومهمته الإشراف على صون سرية موجودات المكتبة وعمل الأمناء فيها، ومرافقة الملك لدى زيارته لها وتسهيل استخدامه مقتنياتها. كما كان من مهامه تعليم أبناء وبنات الملك. بالطبع كان الكتاب من الكهنة باعتبار أن عليهم واجب حفظ سرية المعلومات والأحداث وقدسية الديانة ومحتويات النصوص.

وقد بلغ من أهمية المكتبة أن توصف إحداها، تلك التي كانت في معبد أشمونين مثلاً، بأنها "دار الحياة". لذلك عندما يأمر الملك زوسر أمين المكتبة أمنحتب أن يذهب إلى "أرواح رع"، يجيبه بما يلي: "سأدخل إلى دار الحياة وسأفتح قدرات رع وسأسير على هديها". وأرواح رع هي الكتب السرية المقدسة المدونة على أوراق البردى. وفي كل العصور كانت المكتبة ملازمة للملك ومقيمة معه في قصره. أكثر من ذلك كانت معابد الآلهة تملك مكتبات لاستعمالات الكهنة وإرشادهم إلى أسرار العبادات والطقوس والصلوات والأدعية وتفسير الأحلام وقراءة المستقبل ومعرفة الأسرار المخبوءة وفي مقدمها عمليات التحنيط.

*باحث وأستاذ جامعي

المساهمون