هكذا يتّمني أبي

هكذا يتّمني أبي

26 فبراير 2018
"صرت أنا ضحية ثانية" (نيلسون ألمييدا/ فرانس برس)
+ الخط -

ها أنا الآن جالس وحدي لا أستوعب ما حصل. في لحظة واحدة تحوّلتُ من ابنٍ لرجل وامرأة إلى ابنٍ لجلاّد وضحية، وصرت أنا ضحية ثانية في المشهد. خسرتُ أمي وأبي في لحظة واحدة. أو ربما قبل ذلك. ربما خسرتهما في اللحظة التي غاب فيها الحب الذي كان بينهما.
أبي قتل أمي.

لكن قبل أن يرتكب أبي جريمته بحقّ أمي ارتكبها بحقي وبحق أخوتي. كيف فعل أبي ذلك؟ كيف تمكن من تحميلنا "وصمة" إجرامه؟ لم يحبني أبي ولم يحب أخوتي مثلما ينبغي للأب أن يحب أولاده. أعمته كراهيته. أعمته عن رؤيتنا أنا وأمي وأخوتي. صارت أمي تحت التراب بسبب ما ارتكب نصل سكيّن أبي. ذبحنا أنا وأمي وأخوتي في لحظة حقدٍ واحدة. ذبحنا جميعاً. لكن وحدها أمي من سال دمها على الأرض.

غداً أعود إلى المدرسة. غداً يشيرون إليّ في الملعب بأنني ابن قاتل. لم يفكر أبي بذلك حين قتل أمي. لم يتذكّر أنها أم أطفاله الذين لم يخلعوا المراييل بعد. لم تشفع لها الأمومة. لم يشفع لها شيء.

غداً يأتي أصدقائي في المدرسة مع ما حملتهم إياه أمهاتهم من ألواح شوكولاتة ومن عرائس الصعتر ليسألوني عما أعدّت لي أمي من طعام. سأفتح زوادتي الفارغة من الطعام وقلبي الفارغ من الأحلام. سأقول أنه ليس لي أم تعد لي الطعام وتحمّلني الحلويات وقبلات الصباح. سيسألونني عن أمي التي خسرتها. سيسألونني كيف ولماذا حصل ذلك. سيسألوني عن اسم أمي ولون عينيها وشكل ضفائرها وملمس يديها. ستنهمر علي أسئلة لا أعرف إجابات لها. كيف سأقول أن أبي هو من سرق الألوان من حياتي؟ كيف سأقول أنه من رمى المشهد بالأسود دون بقية الألوان؟

علمّني أبي بصفعةٍ واحدة كيف تتغيّر الأحلام الحلوة لتنقلب إلى كوابيس خانقة. أبي أرسل أمي بيدٍ إلى قبرها وطعن باليد الثانية قلبي الصغير. وقلبي المطعون سينزف الحزن دائماً.


"قاتل". الكلمة فظيعة ومرعبة. كيف أتحمّلها؟ كيف أتحمَل سماعها؟ كيف يقتل أبي من شاركته الرغيف والضحكات والدموع؟ أبي قتلني مع أمي يوم قتلها. راحت أمي وما عاد لي أم. صرت يتيماً. لم أعد ابناً لأمٍ وأب.

أنا الآن مسرحٌ للحزن. من دون أمي، أنا خشبة مسرح مكسورة الخاطر تعجز عن حمل الحكايات. أنا الولد الذي تأكله الخسارة. أنا الولد الذي هربت الأحلام من بين أصابعه. أنا الذي صرتُ بلا الكفّين اللتين ترفعانه ليلتقط النجوم.

المساهمون