البطالة ومحنة خريجي الجامعات

البطالة ومحنة خريجي الجامعات

12 ديسمبر 2018
يحتجون على بطالتهم في تونس (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -


قديماً قيل: "البطالة أم الرذائل"، وذلك كونها تفتح على منوعات من الرذائل والمفاسد الأخلاقية، منها بالطبع السرقة والبلص والفساد والتعدي على الأموال والممتلكات العامة والخاصة والعنف وتكفير المجتمع وغيرها من مثالب تصيب أخلاق الأفراد وتطال وتنعكس على المجتمع برمته.

لكنّ القول المذكور وهو من الأقوال والأمثال السائرة في بلادنا، قد قيل عندما كانت مجتمعاتنا بسيطة التركيب قليلة التعقيد، والمدن والقرى صغيرة بالقياس إلى ما نحن عليه اليوم من مدن مليونية وقرى بعشرات الألوف، كما أنّ سبل تحصيل المعاش كانت متوافرة، بما هي الزراعة والرعي والصيد والحِرف اليدوية البسيطة.

الآن، باتت الأمور أكثر تعقيداً، فسلّم القيم تغير كثيراً عما كان عليه، والمجتمعات باتت متداخلة إلى حدّ مدهش، وتحصيل المعاش بات أكثر تنوعاً. لكن في المقابل، لم تعد اقتصادات الفلاحة والرعي والصيد والحِرف أمراً ميسّراً، بعدما أصبح العالم والحياة معولمة. الألوف من المهن يزاولها الناس لتحصيل مقومات عيشهم اليومي. لكنّ هؤلاء باتوا بهذا الشكل أو ذاك أسرى أسواق كبرى يتأثرون بها رغماً عن أنوفهم. فالزراعة مع مهن الرعي والصيد باتت أقرب ما تكون إلى الصناعة الكبرى التي تتطلب رؤوس أموال ومواد إنتاج مستوردة وأسواق تصريف تستطيع تصدير الفائض إليها وبيعه والشراء بثمنه ما تحتاجه من الخارج وهكذا. وقبل ذلك كلّه كفاءات بشرية تمتد لأجيال، أي إنّ العمليات الإنتاجية باتت كبيرة ومتعددة ومتنوعة المراتب وتتطلب مهارات لا يمكن تحصيلها إلاّ بالعلم. وخلافاً لما كانت عليه العلوم القديمة التي كانت محصورة بالدين واللغة والأدب والتاريخ، باتت مجالات التخصص أوسع مما نتصوره أو نراه في حياتنا اليومية. ولم تعد ممارسة المهن تتطلب إرسال أحد الأولاد إلى محترف الوالد أو الجار في الحي، والتعلم منه كـ"صبي مصلحة" لسنوات قبل أن يترقى ويصبح معلماً.

الجامعات والمدارس المهنية أكثر من أن تحصى وتعدّ وهي مفتوحة الأبواب للتعلم بتمويل من الدولة أو بأقساط شهرية أو فصلية يدفعها الأهل من حسابهم، أو تمولها جمعيات أهلية تحصل على موازناتها من متبرعين أو جهات مانحة.



ولعلّ المثل السابق قيل عندما كانت البطالة خياراً شخصياً ناجماً عن الكسل والعطالة والاتكال على الغير في تحصيل المعاش، سواء أكان هذا الغير الأبوين أو الأخوة والأقارب، أو الميسورين مفتوحي الكف ممن يقدمون ما معهم إلى "السائل والمحروم" من الناس. أما في مجتمعات اليوم، فهناك الدولة والقطاع العام والقطاع الخاص ووزارة العمل وحركة العرض والطلب وتدويل العمل، بمعنى أنّ سوقه بات أوسع من حدود الدول أصلاً وضبطها الجمركي، حتى بات بالإمكان أن تعمل في كندا أو أستراليا وأنت مقيم في إحدى قرى الأطلس في جبال المغرب أو واحدة من عِزب الصعيد المصري إذا ما كنت تملك الكفاءة والقدرة على التواصل عبر الأجهزة الذكية.

في منطقتنا، وليس لأنّنا لا نحمل في عقولنا القليل من الذكاء، نقف الآن عاجزين إزاء هذه الأعداد الفائضة من خريجي الجامعات وحاملي الكفاءات العلمية التي تدور يومياً تبحث عن عمل من دون جدوى. وهكذا نظل داخل حلقة مفرغة لا مفر منها ولا مخرج.

(باحث وأكاديمي لبناني)

المساهمون