تبرير

تبرير

06 نوفمبر 2018
أيّ صحّ هذا؟ (العربي الجديد)
+ الخط -
يلصق فان (ميكروباص) عمومي في لبنان، جملة من سطرين، على زجاجه الخلفي، يعلن فيها السائق أنّ "أكثر ناس عرفوا الصح هنّي اللي عملوا غلط".

الجملة من أغنية عربية حديثة، وليس مستغرباً أن يقتدي السائقون على الطرقات بمثل هذه الأغاني التي يستمعون إليها وتلفتهم معانيها، أكانت عميقة أم سطحية. لكنّ هذه الجملة بالذات، وهي تطلق حكماً نهائياً على أصحاب منهج "الصح" على أنّهم الأكثر ارتكاباً للأخطاء، في استعادة لمقولة "من لا يخطئ هو من لا يعمل"، تقدم تبريراً لارتكاب الأخطاء.

ليس مهماً البحث هنا في الدوافع الشخصية للسائق، فهل الأغلاط التي يتحدث عنها والتي ارتكبها وأدت به إلى الصح، هي على المستوى التعليمي أم العائلي أم المهني أم غير ذلك؟ الأقرب إلى الواقع هي الأغلاط المرتبطة بالفان بالذات، حيث يعلن عن تلك "الحكمة". فمن المعروف في لبنان، أنّ سائقي الفانات العمومية هم الأكثر ارتكاباً للأخطاء المرورية على الإطلاق، بل إنّهم قلّما يحترمون قوانين السير؛ قديمة أو جديدة، بل يبتكرون الأخطاء ابتكاراً أحياناً، حتى يكاد المرء يظنّها غير مشمولة بالقوانين وذات صبغة إبداعية.

هكذا يبرر سائق الفان لنفسه ارتكاب تلك الأخطاء سابقاً وربما لاحقاً، فالغاية واضحة أمامه وهي الوصول إلى الصحّ. هو يؤكد ذلك لكنّه لا يعنيه بالضرورة، فالخطأ يحتاج إلى تبرير في حال الضبط، وما التبرير الأفضل إلاّ الأمنيات المغلفة بطابع الغايات المخطط لها، ومن المعروف منطقياً أنّه "لا يمكن الاستدلال على القيمة من الواقعة" إلاّ في منهج الاستقراء الذي يمكن نسفه من أساسه بقابلية التكذيب التي اعتمدها فيلسوف العلم كارل بوبر أساساً لمنهجه، فـ"بجعة سوداء واحدة بين ملايين من طيور البجع يمكن أن تنسف حقيقة أنّ لون البجع أبيض".



لنحمل هذا التبرير إلى مستوى آخر وأوضاع مختلفة. عالمنا العربي مليء جداً بالمشاكل الاجتماعية والحقوقية. ولعلّ كلّ نظام من الأنظمة ومسؤول من مسؤوليه يبرر لنفسه إبقاء الوضع على ما هو عليه من خطأ يومي متكرر منذ توليه مسؤولياته مع نيّة استمرار الأخطاء على ما هي عليه، من دون اعتراف بذلك طالما هو في الحكم، بذريعة نوايا الوصول إلى الحلول. هكذا تبقى النوايا نوايا، فالغاية الحقيقية ليست الوصول إلى الحلول بل البقاء في الحكم والمنصب أطول فترة ممكنة، مع توريثه إذا أمكن للأبناء، حتى في غير الممالك.

المسؤولون يخطئون يومياً، ولا تهمهم القوانين، مثل سائقي الفانات، إذ يعتبرونها لا تنطبق عليهم، أما الشعب - والسائقون الآخرون - فعليهم أن يبلعوا ذلك التبرير، وإذا لم يبلعوا... فليضربوا رؤوسهم في أقرب حيط.

دلالات

المساهمون