أميركيون فقراء... واقع سيئ يتجاهله السياسيون

أميركيون فقراء... واقع سيئ يتجاهله السياسيون

18 أكتوبر 2018
الحلم الأميركي مقلوباً (روبرت ألكساندر/ Getty)
+ الخط -
تشير الإحصاءات الأممية والأميركية إلى عشرات ملايين الفقراء في الولايات المتحدة. وبينما تشهد البلاد على انتهاك حقوقهم الإنسانية يومياً، يتجاهلهم السياسيون ويشككون في أرقامهم حتى

تجلس منى على كنبة عريضة تحتل نصف صالونها الصغير الأشبه بالممر، وينحشر في طرفه المؤدي إلى غرفة النوم تلفزيون بشاشة كبيرة. يعرض التلفزيون مسلسلاً فيه بيوت أشبه بالقصور لا علاقة لها بالفقر الذي تعيشه منى، بل يرتبط بأحلامها أو أوهامها عن الحياة في الولايات المتحدة وتحقيق "الحلم الأميركي"، قبل أن تأتي مع زوجها من القاهرة قبل أكثر من ستة أعوام.

في الغرفة التي من دون شبابيك، إلى جانب الكنبة، يمتد سرير عريض ينام فيه طفلاها. تعمل منى أكثر من ثلاثين ساعة أسبوعياً في العناية بكبار السن. أما زوجها فعمله متقطع، ولا يسمح له مرضه (السكري) بالاستمرار لفترة طويلة، كما تقول. تحاول منى تدبير أمورها المعيشية بمساعدات مالية تتلقّاها، مخصصة للفقراء وذوي الدخل المحدود، إن تمكنت من الحصول عليها. تقول لـ"العربي الجديد": "ابناي الآن في السابعة والسادسة، وفي المدرسة طلباتهما كثيرة من رحلات وصور وكومبيوترات وإمكاناتي محدودة، والتقدم للحصول على مساعدات إضافية ليس سهلاً... تصلنا بعض المساعدات الإضافية للطعام. لكنّ إيجار هذه الشقة التي تهاجمها الرطوبة من كلّ جهاتها يصل إلى 900 دولار شهرياً". تضيف: "هذا ما يمكننا أن نوفره، مع ذلك وضعنا أحسن من غيرنا. لكنّي أخاف أن أمرض أو لا أتمكن من العمل. ماذا سيحدث لأولادي؟ أخاف أن أصبح مشردة كهؤلاء الذين نراهم في الشارع".

إنكار

فقر منى حال عشرات الملايين من الأميركيين والمهاجرين، ممّن يعيش كثيرون من بينهم في فقر مدقع. مثل هؤلاء من العائلات والمشردين يصل عددهم في مدن كنيويورك رسمياً إلى ستين ألف مشرد، ومن ضمنهم عائلات تعيش في مساكن للمشردين. بعض تلك العائلات يعمل فيها أحد الوالدين وظيفة كاملة، لكن لا تحصل على ما يكفي من الأجر لتوفير سكن كريم في مدينة وصل فيها معدل الغلاء إلى مستويات لا تعكس معدلات الدخل أبداً. ولا يقتصر الفقر في الولايات المتحدة على عائلات المهاجرين أو سكان المدن الكبيرة، بل هو منتشر بشكل واسع في ولايات وسط الولايات المتحدة، وفي المناطق الريفية. وتعد معدلات الفقر في الولايات المتحدة من أعلى المعدلات بين الدول الصناعية، على الرغم من أنّ البلاد من أغنى الدول في العالم، والأقوى اقتصادياً.



لا تتجلى الفروق الطبقية المخيفة في الأرقام فحسب، بل باغتراب نسبة كبيرة من السياسيين الأميركيين عن مواطنيهم، وتكذيبهم أنباء انتشار الفقر بمستويات عالية، وهو ما حدث مع إدارة الرئيس دونالد ترامب وأهم رموزها، السفيرة الأميركية للأمم المتحدة نيكي هيلي (المستقيلة أخيراً). شككت هيلي في تقرير الأمم المتحدة الصادر في يونيو/ حزيران الماضي حول معدلات الفقر في بلادها، الذي حذّر من سياسات ترامب، ورأى أنّها تزيد من الفقر المدقع وهبوط شرائح أوسع إلى العيش تحت معدل الفقر. وبدا ذلك التشكيك الحاد أقرب إلى سلوك الدكتاتوريات منه إلى بلد يعتبر نفسه من أقدم الديمقراطيات في العالم. ويرجح البعض أنّ انسحاب الولايات المتحدة، بعد أيام من صدور التقرير، من مجلس حقوق الإنسان، جاء احتجاجاً على التقرير وفحواه. وعللت الولايات المتحدة ذلك بما سمته سياسات المجلس المنحازة ضدها وضد إسرائيل.

حقوق الإنسان

وكان المقرر الخاص المعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الإنسان، فيليب ألستون، قد قدم تقريره حول معدلات الفقر في الولايات المتحدة إلى المجلس، ليحاول من خلاله فحص مدى اتساق سياسات الحكومة مع التزامات الولايات المتحدة بحقوق الإنسان. وقدّم في تقريره التوصيات للحكومة الأميركية التي رفضت حتى نتائج التقرير وقللت من شأنه.

تربط الأمم المتحدة بين الفقر المدقع وانتهاكات حقوق الإنسان. ومنذ عام 1989 بدأت لجنة حقوق الإنسان نقاش قضية الفقر المدقع وتصفه كمصدر رئيسي للحرمان يمس حقوق الإنسان على جميع الأصعدة. وفي عام 1998 قررت اللجنة إنشاء ولاية الخبير المستقل المعني بقضية حقوق الإنسان والفقر المدقع، ومن ثم نقلها عام 2006 تحت مسؤولية مجلس حقوق الإنسان، بالتسمية الحالية، وهي ضمن ما يعرف بنظام الإجراءات الخاصة للأمم المتحدة.

مخيم للمشردين في سانتا آنا، كاليفورنيا (فرانس برس) 


يعتبر ألستون، وهو أستاذ جامعي متخصص في القانون وحقوق الإنسان بجامعة "نيويورك"، أنّ "الفقر المدقع ظاهرة متعددة الأبعاد ولا تقتصر على النقص في الدخل"، بل إنّ الفقر المدقع يشمل "النقص في الدخل، وفقر التنمية البشرية، والحصول على الخدمات الأساسية، والاستبعاد الاجتماعي وغيرها". والربط بين الفقر المدقع وانتهاكات حقوق الإنسان ضروري لأسباب عديدة، بحسب المقرر، إذ إنّ كثيراً من الأشخاص الذين يعيشون فقراً مدقعاً يحرمون من حقوق الإنسان، من قبيل الافتقار إلى الحصول على التعليم أو الخدمات الصحية أو المياه الصالحة للشرب أو المرافق الصحية الأساسية. كذلك، قد يؤدي ذلك إلى استبعادهم عن المشاركة في العملية السياسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي الفقر المدقع إلى انتهاكات لحقوق الإنسان، مثل إجبار الفقراء على العمل في بيئات غير آمنة وغير صحية. ويشير المقرّر كذلك إلى أنّ الفقر نفسه قد يكون نتيجة لانتهاكات حقوق الإنسان، كأن لا يتمكن الأطفال من الهرب من الفقر عن طريق التعليم، بسبب عدم توفير الدولة تلك الإمكانية، ما يعني أنّ انتهاك حقهم بالتعليم أدى كذلك إلى فقرهم أو بقائهم فقراء.

أجور متدنية

قدّر تقرير ألستون عدد الأميركيين الذين يعيشون تحت خط الفقر بقرابة 41 مليون أميركي، أي حوالي 13 في المائة من الأميركيين، من بينهم 18 مليون أميركي يعيشون في فقر مدقع. وثلث الفقراء في الولايات المتحدة من الأطفال. كذلك، أشار التقرير إلى أنّ معدل الفقر بين الشباب الأميركيين هو الأعلى مقارنة بدول صناعية أخرى. ورأى التقرير أنّ هدف سياسات إدارة ترامب هو مكافأة الأغنياء وتقليص الضرائب، في الوقت الذي تسحب فيه شبكة الأمان من الفقراء، وتقلص أو تلغي برامج مساعدات تحافظ على تلك الشبكة.



من جهته، أشار تقرير لمنظمة "إطعام أميركا" إلى أنّ نحو 46 مليون أميركي يعتمدون على معونات غذائية من الدولة لتأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية. تؤكد المنظمة أنّ هذا الرقم ارتفع بنحو 30 في المائة مقارنة بعام 2007.
تشهد الولايات المتحدة أعلى مستويات اللامساواة في ما يخص الفروق في معدل الدخل بين مواطنيها مقارنة بالدول الصناعية الأخرى. وتعدّ العائلة المكونة من أربعة أطفال، التي يصل معدل دخلها السنوي إلى 24 ألف دولار، أنّها تعيش تحت معدل خط الفقر.

وتختلف معدلات الفقر بين النساء والرجال أو المجموعات المختلفة. ويعاني 16 في المائة من النساء من الفقر مقابل 13 في المائة من الرجال. ويضرب الفقر الأطفال بشكل قوي، إذ يعيش واحد من كلّ خمسة أطفال في الولايات المتحدة تحت خط الفقر. كما يعاني أكثر من 27 في المائة من السكان الأصليين ونحو 26 في المائة من السود من الفقر في الولايات المتحدة، فيما تصل نسبة البيض الذين يعانون من الفقر إلى نحو 12 في المائة.

انتظار الحساء المجاني في فرجينيا الغربية (Getty) 


كذلك، أشار تقرير "الحملة الكاثوليكية للتنمية البشرية"، وهي منظمة خيرية تابعة للكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة، إلى أنّ نحو 30 في المائة من الأميركيين، أي قرابة 95 مليون أميركي، يعيشون على حافة خط الفقر.

للوهلة الأولى قد تبدو هذه التقارير متناقضة مع معدلات البطالة في الولايات المتحدة، المتدنية جداً، التي تصل إلى أقل من خمسة في المائة. لكنّ، كريس بايز، وهو مسؤول عن أحد الملاجئ التي توفر طعاماً مجانياً للمحتاجين والمشردين في نيويورك، يفسر أنّ "نحو نصف الذين يأتون للحصول على وجبات ساخنة وبشكل يومي هم ممن يعملون وظيفة كاملة أو حتى أكثر من وظيفة. لكنّ المشكلة التي يواجهونها أنّ دخلهم بالكاد يكفي سد احتياجاتهم الأساسية، كالسكن، لأنّ معدلات الدخل عند شرائح واسعة منخفضة جداً، في حين يحصل الأغنياء وأصحاب الشركات على رواتب كبرى وتخفيضات ضريبية خيالية".

يضيف: "في أيّ مجتمع صناعي وغني، كالولايات المتحدة، يربط الناس بين العمل وتوفير حياة كريمة يمكن الحصول فيها على الأساسيات، لكنّ ملايين الناس في الولايات المتحدة يحلمون بأجر يسدّ حاجاتهم الأساسية. هذا يعني أنّ عليك أن تعمل من دون أن تمرض ومن دون أن تواجه طارئاً يجبرك على التوقف عن العمل لفترة، أو تحتاج إلى أيّ مبلغ إضافي، وهو أمر مستحيل".